الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور:39].
لما ذكر الله سبحانه وتعالى قبل هذه الآيات أمْر المساجد وأن هذه المساجد يوجد فيها المؤمنون الذين يعبدون الله سبحانه وتعالى، ويخلصون له، والذين ينير الله عز وجل قلوبهم بحفظ كتابه سبحانه، وبكثرة تسبيحهم وصلاتهم في بيوت الله، ثم ذكر المؤمنين وذكر شيئاً من أعمالهم وذكر جزاءهم.
ثم انتقل لذكر الكافرين كيف تكون أعمالهم وكيف يكون جزاؤهم عند الله تبارك وتعالى، فقال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً} [النور:39]، فالكافر مهما عمل من خير فإنما يجزى عليه في الدنيا فقط.
وأما عند الله يوم القيامة فلا أجر له ولا ثواب؛ لأن الأجر والثواب عند الله مرتبط بإيمان العبد، وشرط الثواب على العمل أن تعمله خالصاً لله سبحانه وتعالى، فليس فيه ريا ولا شرك.
فهؤلاء الكفار عملوا أعمالاً هي شرك بالله تبارك وتعالى، وتقربوا إلى غير الله، أو عملوا أعمالاً ابتغوا بها الخير لغيرهم، ولكن أصل الإيمان ليس في قلوبهم، فقد كفروا وجحدوا ربهم، وكذبوا رسل رب العالمين، ثم عملوا أعمالاً فلن تقبل منهم؛ لأن شرط القبول: الإيمان والتصديق والدخول في هذا الدين العظيم، فإذا رفضوا كلام رب العالمين، وكذبوا النبي صلوات الله وسلامه عليه، ثم بعد ذلك تصدقوا أو عملوا أعمالاً صالحة في الظاهر فهذه لا قيمة لها عند الله سبحانه وتعالى، فإذا جاءوا يوم القيامة اغتروا بأعمالهم، وظنوا أن لهم أعمالاً مقبولة عند الله سبحانه، فلما قدموا وجدوا هذه الأعمال هباء منثوراً، قال سبحانه: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23] أي: كالذرات المتناثرة التي تراها في الكوة إثر دخول الشمس منها، فكذلك أعمالهم لا يؤجرون عليها.
وهنا ضرب الله ومثلاً آخر يتبين منه عدم قبول أعمال هؤلاء وكيف يكون شأنها، وكيف يتحسرون عليها يوم القيامة، فيقولون: يا ليتنا عملنا هذه الأعمال مع تصديقنا بالله تبارك وتعالى، قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} [النور:39]، {وَالَّذِينَ كَفَرُوا} [النور:39] مبتدأ، و {أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ} [النور:39]، مبتدأ ثانٍ وخبر، والجملة خبر للمبتدأ الأول، أو {أَعْمَالُهُمْ} [النور:39]، بدل من {الَّذِينَ كَفَرُوا} [النور:39].
قال تعالى: {أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ} [النور:39]، وهو هذا الشيء اللامع البعيد الذي تراه في وقت الظهيرة وأنت تمشي في صحراء واسعة منبسطة في شدة الحر، فتنزل الحرارة وتبخر الأبخرة الموجودة في طبقات الهواء مع تمدد أشياء منها، فتنكسر عليها أشعة الشمس فتراها كأنها ماء أمامك، فمثل عمل الكافر كإنسان يمشي في صحراء في غاية العطش، فوجد أمامه قاعاً منبسطاً فظن أن فيه ماء وهو سراب في وقت شدة الظهيرة، فجرى تجاه هذا الماء يريد أن يشرب منه، فلما وصل بعد تعب لم يجد ماء ولا شيئاً، ولكن وجد سراباً لامعاً كالماء وليس ماء حقيقة.
قال تعالى: {أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً} [النور:39]، فغير الظمآن في هذا المكان ليس محتاجاً للماء ولكن الظمآن في غاية العطش هو الذي يكون في غاية الاشتياق أن يصل إلى هذا الماء ليشرب منه، وكذلك الكافر يوم القيامة ينتظر عملاً ينجيه وينقذه مما هو فيه، فإذا به يتذكر الأعمال الصالحة التي عملها، فلما ظن أنه ينتفع بها إذا بالله عز وجل لا يقبل منها شيئاً.
قال هنا: {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} [النور:39]، لما جاء يوم القيامة ولم يقبل منه هذا العمل وجد الله هناك عز وجل ليسأله ويجازيه على كفره وجحوده وتكذيبه، فكما لم يجد صاحب السراب العطشان ماء، كذلك هؤلاء يوم القيامة لم يجدوا ثواباً على أعمالهم بل قد أحبطها كفرهم فلم يجدوا شيئاً.
قال تعالى: {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ} [النور:39] أي: وجد الله له بالمرصاد، أو وجد جزاء الله سبحانه وتعالى له على كفره عند حشره، قال: {فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} [النور:39] أي: أعطاه العقوبة الوافية جزاءً بما قدم من كفر قال: {وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور:39]، فيحاسب الخلق جميعهم لا يشغله شيء عن شيء يوم القيامة، فيوفي للمؤمنين جزاءهم بالحسنى، ويوفي الكافرين جزاءهم وعقوبتهم على ما فرطوا وما قدموا من أعمال سيئة.