يقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [النور:21] يحذر الله عز وجل المؤمنين من أن يتبعوا مسالك الشيطان ومداخله وأهواءه التي يدعو الناس إليها، والمعنى: لا تسلكوا الطريق التي يدعوكم الشيطان لسلوكها.
قوله: ((خُطُوَاتِ)) الخطوات واحدها خطوة، والخطوة ما بين القدمين، كأن تمد رجلاً للأمام فتقيس ما بين القدم الأمامية والقدم الخلفية، فتلك المسافة تسمى: خطوة.
قوله: {لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [النور:21] بالضم للطاء وهذه قراءة قنبل عن ابن كثير وقراءة ابن عامر وقراءة حفص عن عاصم وقراءة الكسائي وقراءة أبي جعفر ويعقوب، وأما باقي القراء فيقرءونها بالفتح: (لا تَتَّبِعُوا خَطَوَاتِ الشَّيْطَانِ).
يقول سبحانه {وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [النور:21] أي: ومن يسر في مسالك الشيطان، وكأن الشيطان يمشي ثم يضع علامة، فيأتي الإنسان ويمشي على هذه العلامة وهكذا، فمن تبع خطوات الشيطان فإن الشيطان يأمره بالفحشاء والمنكر، والله عز وجل يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر، فالذي يسير وراء الشيطان سيكون من أهل الفحشاء -وهي القبائح- ومن أهل الزور والبهتان، ومن أهل الأفعال والأقوال القبيحة، قال سبحانه في سورة البقرة: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا} [البقرة:268] أي: أن الشيطان يأمر بالفحشاء والمنكر، ويأمركم بأن تقعوا في كل فاحشة؛ لأن الشيطان لا يحب الخير للإنسان، فهو عندما خلق الله عز وجل آدم عليه السلام كاد له، فجعله الله عز وجل شيطاناً رجيماً، وتوعده بالنار، قال سبحانه: {قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ} [الحجر:36 - 37] أي: المؤخرين فلن نعذبك الآن، وإنما سنؤخر عذابك إلى يوم القيامة، ووعد الله حق لا يخلف، ولذا ظل الشيطان يتغيظ من ابن آدم؛ فهو بخلق آدم أظهر ما في داخله من الكبر والغرور، قال الله عز وجل حاكياً عن إبليس: {قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:30].
فقد ابتلي آدم بالشيطان، فهو يحسده أن خلقه الله عز وجل بيده، وأمر الملائكة أن يسجدوا له، فرفض أن يسجد لآدم، واستكبر عليه وكان من الكافرين باستكباره، فالله عز وجل جعله من أهل العذاب.
فآدم كان سبب عذاب هذا الشيطان، فالشيطان جعل يحسده ويحسد بنيه، يقول الله سبحانه مخبراً عن توعد الشيطان بإغواء بني آدم: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص:82]، ويقول في موضع آخر: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف:17]، فهو يكيد للإنسان حتى يأخذه معه إلى النار، والله سبحانه وتعالى بين لنا في كتابه أنه عدو لنا فقال: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر:6] أي: احذروا أن تكونوا من أهل النار، فالشيطان يدعوكم إلى ذلك، وهنا في سورة النور يخبر أنه يأمر بالفحشاء والمنكر، فهذا سبيله وهذا ديدنه.
قال تعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا} [النور:21]، فتكررت (لولا) مرات في هذه السورة، وقد لا يذكر جوابها أحياناً ويذكر أحياناً أخرى كما في هذا الموضع: ((وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ))، وذلك بأن هداكم وأن علمكم سبحانه، ولولا رحمته بكم سبحانه: ((مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا)) يعني: ما تزكى وما تطهر منكم أحد أبداً، وما استحق أن يكون من أهل الجنة، وما استحق أن يهدى، {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا * يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا} [النساء:26 - 28]، وهذا محض فضل من الله عز وجل، إذ أنه يريد بكم الخير والرحمة والتخفيف فضلاً منه ونعمة، فلولا فضله ورحمته بالناس ما تطهر أحد أبداً، ولا عرف شرع الله سبحانه ولا طريق جنته.
يقول الله سبحانه: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} [النور:21] أي: يهدي من يشاء إلى طريق الحق وطريق الإسلام، {وَاللَّهُ سَمِيعٌ} [النور:21] كل شيء، ((عَلِيمٌ)) بمن يستحق منكم أن يهدى ومن يستحق منكم أن يضل.