الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:11].
ذكرنا في الحديث السابق أن هذه الآيات من هذه السورة الكريمة نزلت في تبرئة السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها مما قاله الأفاكون الكذابون المنافقون عنها، وذكرنا ما رواه البخاري ومسلم من هذه القصة التي فيها حديث الإفك، وكيف أن النبي صلى الله عليه وسلم قام في الناس لما سمع ذلك وقال: (من يعذرني في رجل قال عن أهل بيتي ما قال، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فقام رجل من الأنصار وهو سعد بن معاذ سيد الأوس رضي الله عنه وقال: نحن نعذرك يا رسول الله) يعني: نحن ننصفك في ذلك الذي حدث، (فإن كان من الأوس قتلناه، وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا بأمرك، قالت عائشة رضي الله عنها: فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج -وكان رجل صالحاً ولكن أخذته الحمية، فقال لـ سعد بن معاذ: كذبت لعمر الله لا تقتله)، وهنا أحياناً العصبية تكون في قلب الإنسان فتدفعه إلى الخطأ وقد يكون مؤمناً، وقد يكون على صلاح، فيتكلم بكلام يحاسبه الله عز وجل عليه، فهذا من أخطر ما كان.
فالنبي صلى الله عليه وسلم شغله هذا الحديث الفظيع الذي قيل عن زوجته رضي الله عنها ومع ذلك هذا يتكلم ويقول لـ سعد بن معاذ: (كذبت لعمر الله لا تقتله)، ويقصد المنافق عبد الله بن أبي ابن سلول، (فكاد الأوس والخزرج يقتتلون بسبب ذلك، فسكتهم النبي صلى الله عليه وسلم)، وتأملوا كيف أن عصبية الجاهلية تدفع الناس لنسيان المشكلة الأساسية والدخول في أمور فرعية بعيدة عن الأصل.
وأخبرت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءها وقال لها: (إذا كنت قد ألممت بأمر فتوبي إلى الله)، فهي ردت على هذا بما ذكر سابقاً، وفي النهاية أنزل الله عز وجل بعد شهر عذر السيدة عائشة، وأنها بريئة من هذا الذي قيل عنها، فكان لها منزلة عظيمة جداً عند ربها سبحانه أن ينزل في شأنها عشر آيات.
وكانت تقول: كان شأني في نفسي أحقر من ذلك، يعني: كانت تتمنى أن لو رأى النبي صلى الله عليه وسلم رؤيا في منامه تبرئها، لكن أن ينزل قرآن فما كان ذلك على بالها.
وتقول عائشة رضي الله عنها: سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش رضي الله عنها عن أمري: ما علمت أو ما رأت؟ فقالت: زينب رضي الله عنها: يا رسول الله! أحمي سمعي وبصري، يعني: أخاف من ذلك، وإني لا أقول كلاماً كذباً أبداً، والله ما علمت إلا خيراً.
وفيه تقوى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وهن القدوة للمسلمين والمسلمات من بعد ذلك، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم قدوة الجميع، فهؤلاء نساء النبي صلى الله عليه وسلم طهرهن الله عز وجل تطهيراً؛ فلذلك قالت: أحمي سمعي وبصري.
ومهما تكون الغيرة في المرأة من ضرتها لكن لا يدفعها ذلك إلى أن تقول مثل هذه المقالة الشنيعة.
فقالت زينب وهي كانت تغار من عائشة، والسيدة عائشة تغار منها، ولكن مع ذلك شهدت بالحق وأنه مستحيل أن تقع عائشة في ذلك فقالت: ما رأيت إلا خيراً، وما علمت إلا خيراً، وأقسمت بالله على ذلك رضي الله عنها.
إن الذي بدأ بهذا الإفك هو عبد الله بن أبي ابن سلول الرجل المنافق، وقد أسر ذلك لمن حوله من المنافقين فأشاعوا هذا الكلام، ولذلك لم يثبت عليه شيء وإن كان هو صاحب هذه الكذبة العظيمة والإفك العظيم، فحين جاءت السيدة عائشة ومعها صفوان بن معطل السلمي يقود الناقة التي تركبها قال هذا الرجل المجرم: والله ما نجت منه ولا نجا منها، فكان أصل الكلام من هذا الرجل فتناقله الناس، وممن تناقله وثبت عليه حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش، فهؤلاء لما أنزل الله عز وجل براءة السيدة عائشة أمر بهم فأقيم عليهم الحد، وأما عبد الله بن أبي ابن سلول فلم يقم عليه شيء، وهذا من الله عز وجل إملاء واستدراج، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الحدود كفارة) فمن أقيم عليه الحد فهذا كفارة فيتوب الله عز وجل عليهم بذلك، وأما هذا فالله يستدرجه ويمهله ويؤخره إلى يوم القيامة للحساب العظيم، ولنار جهنم التي يستحقها هنا المنافق وأمثاله.
لذلك إذا كان ربنا سبحانه وتعالى لا يعاقب العبد في الدنيا فليس معنى ذلك أنه أفلت من العقاب، ولكن إن تاب تاب الله عز وجل عليه، وهذا الرجل لم يتب إلى الله، وكان إلى آخر حياته على كفره ونفاقه وكذبه، وعلى الوقيعة بين المؤمنين حتى أهلكه الله سبحانه وتعالى وهو مشهور بالنفاق بين الناس.
فمن كان يدافع عن هذا الرجل علم يقيناً كيف آل الأمر به في آخر حياته إلى النار، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد صلى عليه حين مات، ثم نهاه ربه سبحانه وتعالى بعد ذلك أن يصلي على المنافقين، فلما نهاه عن أن يصلي على أحد منهم مات أبداً علم الناس يقيناً أن هذا الرجل كان من المنافقين، وأنه كان لا ينبغي للنبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له كما ذكر الله تبارك وتعالى.
وقد ظلم في هذه القصة مع السيدة عائشة صفوان بن المعطل السلمي فلما عرف أن حسان كان يتكلم فيه أخذ السيف واختبأ في مكان، فلما ظهر حسان علاه بسيفه وقال: تلقّى ذباب السيف عني فإنني غلام إذا هوجيت لست بشاعر فإن كنت شاعراً تستطيع الرد فأنا لا أرد إلا بالسيف، فضربه السيف، فذهب حسان يشكو للنبي صلى الله عليه وسلم ذلك.
وهنا النبي صلى الله عليه وسلم حكم بالعدل، وإن كان حسان من ضمن من وقع في السيدة عائشة فقد أقيم عليه الحد، فعلى ذلك يكون له القصاص.
فالنبي صلى الله عليه وسلم طلب من حسان أنه يهب ذلك له، قال: واستوهبه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، يعني: اتركها من أجلي، فتركها حسان رضي الله وتعالى عنه، وكان حسان بعد ذلك يقول شعراً يمدح عائشة رضي الله عنها، فجلس عند غرفتها وقال عنها رضي الله عنها: حصان رزان ما تزن بريبة وتصبح غرثى من لحوم الغوافل يذكرها أنها على غاية الكمال في العفة رضي الله تبارك وتعالى عنها، فهي رزينة عاقلة ما يظن فيها أبداً أن تقع في ريبة فضلاً عن أن تقع في ذلك الذي قالوه عنها.
وتصبح غرثى من لحوم الغوافل، غرثى بمعنى: جائعة غير آكلة، أي: أنها نظيفة طاهرة لا تقع في عرض أحد أبداً، ولا تأكل لحوم الناس بمثل هذه المقالة.
فلما قال لها ذلك رضي الله وتعالى عنهما قالت: ولكنك لست كذلك.
فلما كان الناس يريدون أن يقعوا فيه كانت تنهاهم عن ذلك، وتقول: إنه قد أقيم عليه الحد، وإنه كان شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت تذكره بخير.
فتأمل ما قال عليها وما قالت عليه، فكان من شعره فيها قوله: حصان رزان ما تزن بريبة وتصبح غرثى من لحوم الغوافل حليلة خير الناس ديناً ومنصباً نبي الهدى والمكرمات الفواصل عقيلة حي من لؤي بن غالب كرام المساعي مجدها غير زائل مهذبة قد طيب الله خيمها وطهرها من كل شين وباطل فإن كان ما بلغت اللغت أني قلته فلا رفعت سوطي إلي أناملي فكيف وودي ما حييت ونصرتي لآل رسول الله زين المحافل له رتب عال على الناس كلها تقاصر عنها سورة المتطاول إذاً: يمدح السيدة عائشة، ويمدح النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يلقب بشاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان من أقوى شعراء النبي صلى الله عليه وسلم هجاء للكفار، بل جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (أهجهم وروح القدس معك).
يعني: كل شاعر من الشعراء تكون الشياطين من وراءه، لكن هذا كان جبريل من وراءه يؤيده.
فعلى ذلك فله فضيلة، فمن رحمة رب العالمين سبحانه أن أنزل الحدود وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقيم الحد عليه وعلى من معه من المسلمين الذين تكلموا؛ تطهيراً لهم لكي يعرف أنهم قد طهروا من هذا الذي وقعوا فيه.
وأما عبد الله بن أبي ابن سلول فأمره إلى يوم القيامة للعذاب الأليم هو وأمثاله.
جاء في سنن أبي داود عن عائشة رضي الله عنها قالت: (لما نزل عذري قام النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك وتلى القرآن، فلما نزل من المنبر أمر بالرجلين والمرأة فضربوا حدهم، وسماهم: حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش).
قال العلماء: إنما لم يحد عبد الله بن أبي ابن سلول لأن الله تبارك وتعالى قد أعد له في الآخرة عذاباً عظيماً، فكأنه أخر ذلك ليوم القيامة فيأخذ العذاب الشديد.
قال الله عز وجل: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا} [النور:12]، هذا تأديب للإنسان المؤمن ألا يسمع كلاماً فيه كذب، أو فيه انتهاك لعرض إنسان مسلم، وأنه إذا سمع ذلك رد على الذي يقوله، ولا يسيء الظن في المسلمين، فالأصل براءة عرض الإنسان المسلم، وأنه بريء مما يرمى به حتى يأتي الرامي بأربعة شهود كما ذكر الله عز وجل يشهدون على ذلك.