وهذه القصة موجودة في الصحيحين: صحيح بخاري وصحيح مسلم لكنها في صحيح مسلم أكمل وأتم، فنذكر رواية مسلم لهذا الحديث عن الزهري قال: أخبرني سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وعلقمة بن وقاص وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن حديث عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنها حين قال لها أهل الإفك مقالاً فبرأها الله مما قالوا.
فـ الزهري أخذ هذا الحديث من أربعة من التابعين وهم: سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وعلقمة بن وقاص وعبيد الله بن عبد الله بن مسعود، قال: وكلهم حدثني طائفة من حديثها، وبعضهم كان أوعى لحديثها من بعض، وقد وعيت عن كل واحد منهم الحديث الذي حدثني، وبعض حديثهم يصدق بعضاً.
فهنا تتبين قوة حفظ ابن شهاب الزهري رضي الله عنه، فقد كان جبلاً في الحفظ؛ لذلك كانوا يقولون: الحديث الذي لا يعرفه الزهري ليس حديثاً أصلاً.
فـ ابن شهاب الزهري يذكر الحديث عن أربعة كل واحد حدثه بهذا الحديث، ويعرف ماذا قال كل واحد، وما هو النقص الذي عنده، والزيادة التي عند الآخر، ويذكر هذه الألفاظ، وقد حفظ الله عز وجل هذا الدين بهؤلاء الحفاظ رضوان الله تعالى عليهم.
قال: ذكروا أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج سفراً أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم معه) أي: كانت عادته -وهو متزوج تسع نساء- إذا أراد أن يخرج في غزو أو سفر أن يقرع بينهن، فلم يكن يقول: هذه المرة فلانة، والمرة الثانية فلانة، وهو لا يعرف هل ستكون المرة الثانية أو لا، فلذلك كان في أمر السفر يقرع بينهن، والتي يخرج سهمها يأخذها معه صلوات الله وسلامه عليه.
قالت: (فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج فيها سهمي فخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك بعدما أنزل الحجاب)، وهذا كان في غزوة بني المصطلق أو غزوة المريسيع، وكان ذلك سنة ست بعدما أنزل الله عز وجل آية الحجاب.
قالت: (فأنا أحمل في هودجي وأنزل فيه مسيرنا، حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوه وقفل ودنونا من المدينة آذن ليلة بالرحيل)، فقد أمر الله عز وجل نساء النبي صلى الله عليه وسلم وبناته بالحجاب الذي هو حجاب الشخص فلا ترى، فهي تحمل في هودج، وهو محفة مثل الصندوق فوق ظهر الجمل، فلا يعرف من حمله أبداخله أحد أم لا؟ فهي مطيعة لله عز وجل حين أمرها بالحجاب على هذه الهيئة وليس مجرد لبس الثياب فقط.
فتقول رضي الله عنها: (فقمت حين آذنوا بالرحيل فمشيت حتى جاوزت الجيش فلما قضيت من شأني أقبلت إلى رحلي) يعني: كأنها ذهبت تقضي حاجتها ثم رجعت، وكان معها عقد تلبسه فضاع في المكان الذي ذهبت تقضي حاجتها فيه، فرجعت تأتي بالعقد من ذلك المكان، وعند ذلك جاء الذين يحملون الهودج فحملوه وظنوا أنها بداخله، وهي تذكر لماذا لم ينتبهوا إلى الهودج هل هو ثقيل أم خفيف؟ وهل فيه أحد أم لا؟ تقول رضي الله عنها: (وكانت النساء إذ ذاك خفاف لم يثقلن ولم يغشهن اللحم، إنما يأكلن العلقة من الطعام) يعني: لم يكن عندهم سعة، فكان أكل النساء أكلاً قليلاً؛ فلذلك كانت خفيفة لم تحمل اللحم ولا غيره، فالذي يحمل الهودج لا يعرف هل هناك أحد أم لا؟ قالت: (فرحلوا الهودج) يعني: على البعير (وهم يحسبون أني فيه، قالت: وكنت جارية حديثة السن، فبعثوا الجمل وساروا ووجدت عقدي بعدما استمر الجيش فجئت منازلهم) فهي تذكر أنها كانت جارية حديثة السنة ولا زالت صغيرة، إذ حين تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم كان لها من العمر ست سنوات ودخل بها ولها تسع سنوات في المدينة، فالعقد كان في مكة والدخول كان في المدينة، وهذه الغزوة كانت في سنة ست، أي: أن عمرها خمسة عشر عاماً رضي الله عنها، وتذكر أنها كانت جارية حديثة السن.
فقالت: (فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب)، وقد كان تفكيرها على قدر سنها رضي الله عنها، فذهبت تبحث عن العقد الذي ضاع، وكان من الممكن أن تخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذهابها؛ ولكن لعله لم يكن موجوداً بجوارها صلى الله عليه وسلم، ولم يخطر على بالها أن تخبر أحداً بالأمر، فظنت أنها ستأتي به وترجع قبل أن يمشوا، فما كان منهم إلا أنهم مشوا قبل رجوعها.
قالت: (فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب) أي: أن المكان الذي كانوا موجودين فيه ليس فيه أحد.
قالت: (فتيممت منزلي الذي كنت فيه وظننت أن القوم سيفقدوني فيرجعون إلي، فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيناي فنمت) أي: نامت في المكان الذي كانت فيه.
قالت: (وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني قد عرس من وراء الجيش) والتعريس: هو النزول للمبيت من وراء الجيش، فكأنهم يجعلون مثل ذلك بحيث إنه لو فقد الجيش شيئاً يجده من عرس وراءه.
قالت: (فأدلج فأصبح عند منزلي) يعني: مكث في المكان الذي هو فيه وبعد ذلك قام من الليل وصار وراء الجيش فجاء على المكان الذي هي فيه في وقت الصباح.
قالت: (فرأى سواد إنسان نائم فأتاني فعرفني حين رآني، وقد كان يراني قبل أن يضرب الحجاب عليّ).
يعني: كأنها نامت في مكانها فلما نامت انكشف حجابها عن وجهها فهو جاء فرآها فعرفها، وكان يعرفها من قبل ذلك.
قالت: (فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني) استرجاعه يعني قال: إنا لله وإنا إليه راجعون.
قالت: (فخمرت وجهي بجلبابي فوالله ما كلمني كلمة).
فانظروا أدب الرجل لم يكلمها ما الذي أتى بك إلى هنا؟ وما الذي أخرك؟ لم يقل شيئاً رضي الله عنه أكثر من أن قال: إنا لله وإنا إليه راجعون: (والله ما كلمني كلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه حين عرفني، فأناخ راحلته فوطئ على يدها فركبتها) أي: أناخ الجمل ودعس على يده بحيث يكون ثابتاً على الأرض، فركبت عائشة رضي عنها.
قالت: (فانطلق يقود بي الراحلة) فهي راكبة وهو يمشي يقود الجمل.
قالت: (حتى أتينا الجيش بعدما نزلوا موغلين في نحر الظهيرة) يعني: خرج بها من مكانها في الصبح ووصلت إلى الجيش عند الظهر.
قالت: (فهلك من هلك في شأني، وكان الذي تولى كبره عبد الله بن أبي بن سلول) فأبوه أبي، وأمه سلول؛ ولذلك يقال له: عبد الله بن أبي ابن سلول فعندما نكتبها نثبت همزة الوصل في ابن الثانية دون الأولى؛ لأن سلول أم عبد الله وليست أم أبي.
قالت: (فقدمنا المدينة فاشتيكت حين قدمناها شهراً، والناس يفيضون في قول أهل الإفك ولا أشعر بشيء من ذلك، وهو يريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي) يعني: تغير النبي صلى الله عليه وسلم وهو بشر، وذلك حين سمع الناس يقولون هذا الكلام.
وكان الذي بدأ بالكلام في ذلك عبد الله بن أبي ابن سلول، فجاء في رواية في غير صحيح مسلم أن هذا الرجل حين وجدهما راجعين قال: والله ما سلم منها ولا سلمت منه، فبهذه الكلمة تعرف إجرام هذا الرجل الذي تسامح النبي صلى الله عليه وسلم معه كثيراً، ومن ذلك أنه حين مات هذا المجرم -لعنة الله عليه وعلى أمثاله- إذا بابنه -وابنه رجل صالح- يطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي على أبيه، فمجاملة للابن ذهب النبي صلى الله عليه وسلم فصلى عليه.
وقد قال هذا الرجل مقالته في استخفاءً، فلما ذكر مقالته تكلم الناس وانتشر الحديث، فتغير النبي صلى الله عليه وسلم، فلما مرضت لم تعرف من النبي صلى الله عليه وسلم ذلك اللطف الذي كان فيه قبل ذلك، فقد كان يأتيها ويسأل عنها ولا يزيد على أن يقول: كيف تيكم؟ وينصرف صلى الله عليه وسلم، وهي لا تدري ما الأمر، وما الذي حصل.
قالت رضي الله عنها: (فذاك يريبني ولا أشعر بالشر حتى خرجت بعدما نقهت وخرجت معي أم مسطح قبل المناصع، وهو متبرزنا ولا نخرج إلا ليلاً إلى ليل) يعني: كان أمر العرب أن البيوت ليس فيها دورة مياه، فلكي يخرجوا للخلاء تخرج المرأة بالليل في صحبة امرأة أخرى، وتذهب إلى المناصع وهو المكان الذي تقضي فيه حاجتها وترجع بالليل.
قالت (فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت: تعس مسطح) أي: دعت على ابنها بالتعاسة، فتعجبت عائشة من ذلك وقالت لها: (أتسبين رجلاً قد شهد بدر؟) يعني: ابنك شهد بدراً ثم تسبينه وهي لا تعرف ما الذي عمله مسطح وما الذي عمله غيره.
فقالت لها: (أي هنتاه أتسمعي ما قال) تعني: أنت لا تعرفين ماذا قال فيك.
قالت: (وماذا قال؟ قالت: فأخبرتني بقول أهل الإفك، فازددت مرضاً إلى مرضي) يعني كانت في بداية شفائها من مرضها، فإذا بها تخبرها بذلك فازداد مرضها رضي الله عنها.
قالت: (فلما رجعت إلى بيتي فدخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم ثم قال: كيف تيكم؟ قالت: قلت أتأذن لي أن أتي أبوي، وأنا حينئذٍ أريد أن أتيقن الخبر) أي: ليست مصدقة أن يكون الناس قد قالوا عليها هذا الشيء، فأذن لها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قالت: (فجئت أبوي فقلت لأمي: يا أمتاه ما يتحدث الناس؟ فقالت: يابنية هوني عليك).
أمها هي أم رومان وهي امرأة مؤمنة تقية، فق