يقول الإمام القرطبي رحمه الله: الحد الذي أوجب الله عز وجل في الزنا والخمر والقذف وغير ذلك ينبغي أن يقام بين يدي الحكام.
أي: أن الحد ليس لآحاد الناس، فكل إنسان يأخذ من وجده يشرب خمراً ويضربه بنفسه، أو من وجده يزنى فيجلده الحد بنفسه؛ لأن الحدود لو تركت لآحاد الناس لدخل في الأمر كل إنسان بحسب ما يشتهي أن يفعله في المحدود، وقد يصل في النهاية إلى قتله، فلذلك فالحدود لا يقيمها غير الحكام، فالقاضي ينظر في الإنسان الذي وقع في حد من الحدود، وينظر هل عنده شبهة من الشبهات؟ وهل هو مستحق لذلك أم غير مستحق؟ وهل عقله حاضر أم أنه مجنون حينما وقع في هذا الشيء؟ فإذا وجد شيئاً من ذلك فلا يقام الحد؛ لأن الحاكم لو أخطأ في العفو فعفا عن إنسان يستحق العقوبة خير له من أن يخطئ في عقوبة إنسان بريء، وأما لو تركت الحدود للناس فقد يأتي إنسان ويمسك شخصاً ويقول: أنا رأيت هذا يزني، فيجتمع عليه الناس ويضربونه ضرباً شديداً حتى يقتل، وبعد ذلك يتبين أن هذا كان بينه وبينه عداوة فاتهمه بالزنا، وكانت النتيجة أن قتل بسبب كلام كذاب من الناس.
وكذا لو يدعي إنسان أنه رأى آخر يسرق وجاء الناس وقطعوا يده، وبعد ذلك يتبين أنه: لم يسرق شيئاً، أو سرق شيئاً لا يحد فيه السارق ولا ينطبق عليه فيه حد السرقة.
إذاً: فلا بد من أن ينظر القاضي في هذه الجريمة هل هي الجريمة التي ذكرها الله عز وجل ونص عليها؟ وهل هذا الإنسان مستحق لهذا الحد أم أن هناك موانع وأعذار تمنع من إقامة الحد عليه؟ وإذا كان مستحقاً لذلك فهل الذي يقام عليه الحد في الزنا هو محصن بزواج أم غير محصن بزواج؟ لكن لو ترك لرعاع الناس ليقيموا الحدود فجلدوه حتى مات فهل سيعيدونه إلى الحياة مرة أخرى؟ لا.
إذاً: فالحدود لا تكون لآحاد الناس، وإنما تكون للقاضي، فهو الذي يأمر بذلك ويقيم الحد.
يقول الإمام القرطبي رحمه الله: وينبغي أن يقام بين يدي الحكام، ولا يقيمه إلا فضلاء الناس وخيارهم الذين يختارهم الإمام لذلك.
وكذلك كان الصحابة يفعلون رضوان الله تبارك وتعالى عليهم، ويقولون: تجب المحافظة على إقامة هذه الحدود، والقدر الذي فيها، والمحل والحال، بحيث لا يتعدى فيها الشروط.
ففي الصحيح عن حضين بن المنذر قال: (شهدت عثمان بن عفان رضي الله عنه وقد أتي بـ الوليد وقد صلى الصبح ركعتين، فقال: أزيدكم؟) أي: أأكمل لكم أربعاً؟! فعرف أنه سكران، فأتي به إلى عثمان رضي الله عنه وكان قريباً لـ عثمان رضي الله تعالى عنه، فأمر بإقامة الحد عليه، فشهد عليه رجلان: أحدهما حمران وهو مولى عثمان أنه شرب الخمر، وشهد آخر عليه أنه كان يتقيؤه، أي: الخمر، فقال عثمان: إنه لم يتقيأ حتى شربها، فقال: يا علي قم فاجلده، فأمر علياً أن يجلده، فقال علي: قم يا حسن فاجلده، يريد الحسن بن علي رضي الله عنه، فقال الحسن: ول حارها من تولى قارها، فكأنه وجد عليه، فقال: يا عبد الله بن جعفر: قم فاجلده، فجلده ثمانين جلدة وعلي يعد.
ومعلوم أن هؤلاء كلهم من فضلاء الصحابة رضوان الله عليهم ولذا فإنه لا يقيم الحدود إلا فضلاء الناس.