قال تعالى: {حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ} [المؤمنون:64].
والإنسان المترف: هو المنعم، فتنعم الإنسان في الدنيا مدعاة إلى الترف، ومدعاة إلى البعد عن الله، فتجد المنعم المرفه ينام الليل ولا يقوم لصلاة الفجر؛ لأن السرير أحلى عنده من أن يقوم لله سبحانه وتعالى.
فهم مترفون قد أترفوا بالنعم التي من المفروض على الإنسان أن يشكر الله عز وجل عليها، وأن يقدرها بالشكر، وأن يقدم العمل الصالح الذي يوفقه الله عز وجل به لأن يدخل الجنة، ولكن هؤلاء لا يشكرون الله على نعمه، بل يعرضون عنه، ومنهم المشركون الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فإنهم لما رأوا أن الله عز وجل أنعم عليهم بالنعم أشركوا في عبادته وعبدوا غيره سبحانه، وجعلوا بهيمة الأنعام قسمين: فقسم لله وقسم لآلهتهم، فما كان لله فإنه يصل إلى آلهتهم، وما كان لآلهتهم فلا يجعلونه لله ولا يصل إلى الله.
فهؤلاء المشركون لما أنعم الله عز وجل عليهم عبدوا غيره، فإذا جاءتهم البأساء والضراء يدعونه وحده سبحانه وتعالى، فلما تعنتوا على النبي صلى الله عليه وسلم دعا عليهم ربه سبحانه فقال: (اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف)، أي: مثل السنين التي أصابت أهل مصر، أي: سبع سنوات عجاف، فطلب من ربه أن يضيق عليهم، لكي يرجعوا إليه، فقد كانت عادتهم أنهم في وقت الرخاء يشركون، وفي وقت البلاء يهرعون إلى النبي صلى الله عليه وسلم: ادع لنا ربك، كما فعل بنو إسرائيل مع موسى، وكما فعل فرعون مع موسى.
قال سبحانه: (حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ)، والعذاب هنا هو العذاب الدنيوي؛ لأن العذاب الأخروي لن يرجعوا منه مرة أخرى، وأما في الدنيا فقد يتوبون ويرجعون إلى الله عز وجل، فيكشف عنهم العذاب، وأما يوم القيامة فلا كشف للعذاب عن هؤلاء.
قالوا: والمقصد من هذا العذاب -أي: ما كان من دعوة النبي صلى الله عليه وسلم عليهم- هو ابتلاؤهم، فإذا بهم يجأرون، أي: يصرخون ويضجون ويستغيثون ويرفعون أيديهم لربنا ليكشف عنهم هذا البلاء الذي هم فيه، فقد ابتلاهم الله عز وجل بالقحط، وبالجوع، حتى أكلوا العظام والميتة والكلاب والجيف والجلود، فما وجدوا شيئاً إلا وأكلوه.
فلما اشتد عليهم الأمر ذهبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وجلسوا يبكون ويطلبون منه صلى الله عليه وسلم أن يدعو لهم، وكان رحيماً صلى الله عليه وسلم، فدعا ربه سبحانه أن يكشف عنهم هذا العذاب، وقد ذكر الله عز وجل في سورة الدخان أنه سبحانه وتعالى أرسل عليهم هذه الشدة العظيمة، وبعد ذلك قال: {إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} [الدخان:15]، أي: سترجعون وتكفرون مرة ثانية، وفعلاً رجعوا إلى ما كانوا عليه ولم يدخلوا مع النبي صلوات الله وسلامه عليه، فكأن هذه الآية إشارة إلى ذلك، وفصلها في سورة الدخان.
قال سبحانه: (حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ)، أي: بالعذاب في الدنيا، سواء ما كان من القحط الذي نزل عليهم، أو ما كان من القتل بالسيف في يوم بدر، وقتل رؤسائهم، فإذا هُمْ يَجْأَرُونَ، أي: الذين بقوا يجأرون ويضجون إلى الله عز وجل.