ثم قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78]، فالله رءوف رحيم، ما جعل علينا في الدين من حرج.
والحرج: الضيق، ويأتي من المكان الذي لا يجد الإنسان لنفسه مخرجاً، ولذلك جاء عن ابن عباس رضي الله عنه في هذه الآية أنه سأله عبيد بن عمير وجاء في ناس من قومه وقالوا: ما الحرج؟ فقال ابن عباس: أو لستم العرب؟ فسألوه ثلاث مرات وفي كل ذلك يقول: أو لستم العرب؟ ثم قال: ادعوا لي رجلاً من هذيل فقال: ما الحرج فيكم؟ فقال: الحرج من الشجر ما ليس له مخرج، يعني: الشجر الملتف إذا دخلت فيه لم تستطع الخروج منه.
ومعنى الحرج هنا: أي لم يجعل الضيق في الدين.
فلرأفة الله بالمؤمنين ورحمته جعل لهم في هذا الدين اليسر العظيم، وجعل لهم من قواعده أن الأمر إذا ضاق اتسع، فإذا وجدت الشدة رخص الله لعباده.
وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (بعثت بالحنيفية السمحة)، والحنيفية ملة إبراهيم، ودين الإسلام الدين الحنيف، والمسلم حنيف مائل عن الأديان الباطلة إلى الصراط المستقيم، إلى الدين الحق الذي فيه السماحة وفيه اليسر.
فالله عز وجل كان يشدد على الأمم السابقة بعتوهم وطغيانهم، ومعصيتهم له، وبعدهم عن طاعة رسل الله عليهم الصلاة والسلام.
ولكن هذه الأمة جعل فيها الحنيفية السمحة، فأعطاها من المسامحة، وأعطاها من اللين ما لم يعط أمة قبلها، فرفع عنها المؤاخذة فيما تبدي في أنفسها أو تخفيه، قال تعالى: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة:284]، فضاق ذلك على المؤمنين جداً أن يحاسبوا على ما في أنفسهم وإن أخفوه! فقال الله سبحانه: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286].
فدعا المؤمنون ربهم بذلك، فقال: (قد فعلت) أي: لا أؤاخذكم إذا نسيتم، أو أخطأتم إلى آخر الآية.
كذلك من فضله على هذه الأمة أنهم يتوبون وتوبتهم تجب ما قبلها، أما الأمم السابقة فقد شدد عليهم، فبنو إسرائيل لما عبدوا العجل من دون الله أمرهم نبيهم موسى عليه الصلاة والسلام لكي يتوبوا إلى الله وتقبل توبتهم أن يقتلوا أنفسهم، فقام بعضهم إلى بعض بالسيوف فقتل بعضهم بعضاً حتى قتل منهم في وقت واحد سبعون ألفاً! ثم تقبل منهم، ولم يجعل توبتهم باللسان.
ومن ذلك أيضاً: ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع (لما سأله رجل: إني حلقت قبل أن أنحر، قال: افعل ولا حرج)، وقال آخر: رميت قبل أن فعل كذا، افعل ولا حرج.
فما سؤل يومئذ عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: افعل ولا حرج.
وكان من فضل الله سبحانه أن أنعم على هذه الأمة برفع الحرج، قال لنا: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78]، فدين الإسلام أن تستسلم لرب العالمين، وتسلم نفسك إليه لتنتفع بذلك، أما الله عز وجل فلا تنفعه عبادتك، ولكن خلقك إظهاراً لقوته وقدرته سبحانه؛ وليظهر أسماءه الحسنى وصفاته العلى بخلق مخلوقاته فيرحمهم ويتوب عليهم إذا تابوا، فقصد نفعهم تفضلاً منه سبحانه وتعالى.
ومن رأفته بخلقه وفضله أن قدر العباد على ما كلفهم، ولم يكلفهم بما لا يقدرون عليه، فمثلاً أمر العباد بخمس صلوات في اليوم والليلة، والعبد يقدر أن يصلي أكثر من الصلوات الخمس، ولكن الله جعلها خمس صلوات فقط في الفريضة، وما شئت من نوافل.
وفي الصيام أمرك بصوم رمضان وأنت تقدر أن تصوم رمضان وزيادة، ولكن لم يزد على ذلك إلا أن يكون كفارة أو نذر من العبد.
فالله عز وجل لو شاء لجعل السنة كلها صيام، ولجعل الفطر منها أياماً معدودة، ولكن من فضله ومن كرمه لم يكلف العباد إلا ما يطيقونه بل أقل مما يطيقون.
وقد جعل ما كلفهم به سبحانه وتعالى أقساماً ثلاثة: قسم يتعلق بالعقائد، وثانٍ يتعلق بالأفعال، وثالث يتعلق بالمنهيات.
ففي العقائد كلفوا أن يؤمنوا بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقضاء والقدر، وينبني على هذا الإيمان أن يعمل رجاء جنة الله سبحانه وتعالى، وخوفاً من ناره.
وجعل سبحانه وتعالى ما يفعله العباد أقساماً: قسم يتعلق بأبدانهم: كالصلاة والصوم.
وقسم يتعلق بأموالهم: كالزكاة.
وآخر يتعلق بالأموال والأبدان، مثل: الحج.
وجعل التكاليف سهلة ميسرة على العباد، وجعل في هذه الأقسام رخصاً للعباد، فإذا سافر العبد جاز له الفطر وقصر الصلاة وجمع الصلاتين في وقت إحداهما.
وجعل ما نهاهم عنه رحمة بهم، فلا ينهانا إلا عن الشيء الخبيث المؤذي الذي يضر الإنسان في حياته وبعد وفاته، ومن ذلك في الكف: قسم جعله الله سبحانه إحياءً لنفوس العباد، وإصلاحاً لأبدانهم: كنهيه عن القتل، وعن أكل الخبائث والسموم.
وجعل قسماً آخر من المنهيات لئلا تؤذي غيرك بأن تتلف عليهم أموالهم، أو تتلف عليهم أعضاءهم، وجعل في ذلك العقوبة حتى يحيا الناس من غير أن يؤذي بعضهم بعضاً.
وقسم لحفظ نسب الناس، ونسلهم وتعظيم المحارم: كالنهي عن الزنا وغير ذلك.
فالمتأمل في الشريعة يجدها كلها رحمة في الأمر والنهي وليس فيها من حرج.
كذلك لم يكلف الصغير قبل البلوغ وإن كان يعقل، ومن رحمته في ذلك أن يكتب له الحسنات ولا يكتب عليه الأوزار، فلا يبلغ إلا وله رصيد من الحسنات.
ومن رحمة الله عز وجل بعباده أن خفف عليهم، ونهى عن التشديد في الدين، وهذا الصحابي عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما لما أحب أن يصوم الدهر كله، ويقوم الليل كله نهاه النبي صلوات الله وسلامه عليه وقال: (إن لزوجك عليك حقاً، ولزورك عليك حقاً، ولجسدك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه).
والله عز وجل رفع عنا الحرج في الخطأ وفي النسيان، وما استكرهنا عليه.
فعلى المسلم أن ينظر في نصوص الشريعة ليعلم ما جاء فيها من ترخيص فيأخذ به، ولا يعمل بالتشهي والهوى.