قال سبحانه: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ} [الأحقاف:11].
((وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا)) يعني: عن الذين آمنوا، أو قالوا لهم مجادلين بالباطل، ((لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ))، إما أن الكفار يتكلم بعضهم لبعض، فيقولون عن الذين آمنوا: أهؤلاء يسلمون نحن لا؟ وكونه يسبق إلى ذلك فهو يسبق إلى الشر، فهذا لا يستحق خيراً لذلك دخل في هذا الدين، ولو كان هذا الدين خيراً لكنا نحن الأشراف قد دخلنا فيه، إذاً فهذا دين باطل، فهم قالوا هذا مغترين بما هم فيه، ((وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ))، فقاسوا قياساً باطلاً كقياس الشيطان، والشيطان هو أول من قاس قياساً باطلاً، فقد نظر إلى آدم فوجده مخلوقاً من طين، وهو مخلوق من نار، والنار عنده أحسن من الطين، إذاً: فأنا أحسن من آدم، وهذا قياس الشيطان، فقد قاس نفسه على أصله في زعمه أن النار أفضل من الطين، إذاً فطالما النار أفضل من الطين، وأنا مخلوق من نار، وهو مخلوق من طين إذا فأنا أفضل منه فلن أسجد له، فرفض أمر الله عز وجل، ورفض أن يسجد لآدم لعنة الله على الشيطان.
وهؤلاء اتبعوه في ذلك، فقالوا بهذا الذي قاله فقالوا: نحن الأشرف والأفضل، وهؤلاء كونهم اتبعوا محمداً صلى الله عليه وسلم ففيه دليل على أن ما جاء به محمد باطل، ولذلك لما كان باطلاً اتبعه هؤلاء الفقراء والمحتاجون، وأما نحن الكبراء فلا نتبع هذا الشيء؛ لأن هؤلاء ليسوا مثلنا فلا نكون مثلهم في اتباع هذا القرآن أو في اتباع محمد صلوات الله وسلامه عليه.
فالأمر ينعكس على هؤلاء كما ينعكس على الشيطان، فيقال لهذا الشيطان لعنة الله عليه: أنت قلت: أنا مخلوق من نار، والنار خير من الطين، فمن أين أتيت لنا بالخيرية هنا؟! ومن قال لك هذا الشيء؟ لا بد أن يكون معك دليل على هذا الذي تقوله، فأنت قلته بزعمك أن النار شيء شريف، مع أن النار تفور وتغلي، والنار فيها تهور واندفاع، وفيها شرر وحمق، فإذا جاءت على شيء أكلته كله، والطين فيه رزانة وهدوء، ولذلك رجع آدم لطبيعته، ورجع الشيطان لطبيعته.
ولما غار الشيطان من آدم أصابه النفور والاستكبار حتى على ربه سبحانه، فرفض أن يطيع أمر الله، وآدم لما وقع في المعصية رجع إلى طبيعة الرزانة والهدوء، ورجع إلى الركون والتواضع وقال: أذنبت وأخطأت وعصيت الله سبحانه، رب اغفر لي! فطلب من ربه أن يتوب عليه، فنفع آدم أصله.
ولو فرضنا أن النار خير من الطين فالله عز وجل قد كرم آدم، قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء:70]، فهذا خلق الله وهذا خلق الله، والله تعلى يكرم من يشاء سبحانه، فرفع هذا ووضع هذا سبحانه.
وكذلك هؤلاء المشركون ينقلب عليهم ما قالوه، فيقول المؤمن التقي: هؤلاء الذين سبقوا النبي صلى الله عليه وسلم كانوا هم السباقين والخيار، فأنا أتبع هؤلاء فيما فعلوه، والذين تأخروا وتقهقروا عنه كانوا أشراراً من الخلق، فأنا أحذر أن أكون معهم، فيعكسون على المشركين ما قالوا، فكل شر جرى وراءه المشركون، فتركوا الدين الحق وذهبوا إلى الشر وإلى الشرك والباطل، وكل خير سبق إليه أصحاب النبي صلوات الله وسلامه عليه، فلم يسبقهم أحد إلى خير أبداً، إذاً: فنجعلهم أئمتنا وقدوتنا فنقتدي بهم، ولا نحدث شيئاً خلاف ما فعلوه رضوان الله تبارك وتعالى عليهم.
فيقول الإنسان المؤمن: هؤلاء الصحابة بشهادة القرآن هم السابقون إلى كل خير، والكفار قالوا كذباً: ((لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ))، إذاً: فقد أثبتوا أنهم سبقوا، ونقول نحن: هو الخير، فكل ما يسبق إليه الصحابة فهو الخير، ويلزمنا أن نتبعهم في ذلك، فإذا جاء صاحب بدعة قد ابتدعها قلنا له: لو كانت خيراً لسبقنا إليها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فهل فعلها الصحابة؟ فإذا قال: فعلوها، قلنا: هات الدليل على ذلك، فإذا قال: لم يفعلوها، قلنا: لست خيراً من الصحابة، فهم كانوا يسبقون -بشهادة القرآن- إلى كل خير.
فكل خير في اتباع من سلف وكل شر في ابتداع من خلف فكل من خالف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فالشر فيما يبتدعه، ولذلك لما وجد بعض الأمراء أناساً يتكلمون في خلق القرآن العظيم، جاءه رجل من العلماء فقال له: دعني أناظر هذا الرجل، فالخليفة أتى بهذا الرجل المبتدع الذي يقول بخلق القرآن، وأتى بهذا الرجل الصالح العالم ليناظره، فالعالم قال: إما أن تسأل وإما أن أسأل، فقال هذا المخالف المستكبر: اسألني؟ فقال له: هذا القول الذي تقوله في خلق القرآن هل علمه النبي صلى الله عليه وسلم أم لم يعلمه؟ وكانت هذه الفتنة فتنة عظيمة يمتحنون بها العلماء والناس من أجل أن يقولوا بهذا الشيء، ومن لم يقل بذلك ضربوه وسجنوه بل وقتلوه، فجاء هذا العالم ليسأل هذا الذي يقول بهذه البدعة.
فقال له: هذا الأمر الذي أنت تقوله وتدعو الناس إليه، هل علمه النبي صلى الله عليه وسلم أم لم يعلمه؟ فقال له: فقال له: لم يعلمه، إذا كان لم يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم فهل فضلك الله أنت عليه من أجل أن يعلمك هذا الذي قلته؟! فقال: لا، رجعت عن كلامي، قد علمه النبي صلى الله عليه وسلم.
فقال له: هل علمه فتكلم به أم سكت عنه؟ فتحير؛ لأنه سيقول له: هات الدليل، هات الحديث الذي قاله النبي صلى الله عليه وسلم، فليس أمامه إلا أن يقول: بل سكت عنه، فقال: إذا وسع النبي صلى الله عليه وسلم أن يسكت عنه، أفلا يسعك أنت أن تسكت عنه؟! فبهت الرجل، فوقفت هذه البدعة بعد قول هذا الرجل، وسكت الأمراء عن امتحان الناس، وذلك بعدما ما امتحنوا العلماء ولم يثبت في هذه الفتنة سوى الإمام أحمد رحمه الله، وشاب من الشباب الذين كانوا معه رضي الله عن الجميع.
فالغرض أنه يقال لصاحب البدعة الذي يبتدع في الدين: إن الصحابة كانوا سباقين إلى الخير، فهل هذا من الخير الذي سبق إليه الصحابة؟ فإذا قال: نعم، قلنا له: هاتوا الآثار التي تدل على هذا الشيء، فإذا لم يأت بدليل إذاً فكلامه كذب، فهو يكذب على هؤلاء، وإذا قال: لا، لم يعرف الصحابة هذه البدعة التي يقولها، نقول: الخير في اتباع هؤلاء الذين ما عرفوا هذه البدعة.
وقد قام أحد الأمراء من بني أمية يخطب على المنبر للعيد قبل الصلاة، فإذا بـ أبي سعيد الخدري رضي الله عنه يجذبه بيده، ويقول: لم يكن هذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فلما كان بعد صلاة العشاء، قال: لم يكن الناس ليقعدوا إلينا، ولا يسمعوا لنا بعد صلاة العيد، فقال: ولو كان هذا الشيء.
والثاني يجذبه فقال: ذهب ما تعلم يا أبا سعيد، أي: الذي كنت تعرفه قد انتهى، فقال: والله ما أعلم خير مما لا أعلم، أي: ما أعلمه من سنة النبي صلى الله عليه وسلم خير مما لا أعلمه من بدع تحدثونها في الدين، فالإنسان الذي يريد الجنة هذه طريقه، وهي طريق النبي صلى الله عليه وسلم، وطريق الخير الذي سبق إليه أصحاب النبي صلوات الله وسلامه عليه، الذين قال الكفار فيهم: ((لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا))، فنقلب ما قالوا ونقول: بل كل خير قد سبق إليه أصحاب النبي رضوان الله تبارك وتعالى عليهم، وصلوات الله وسلامه عليه.