الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين: قال عز وجل في سورة الأحقاف: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ * وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ} [الأحقاف:10 - 12].
في هذه الآيات يذكر الله سبحانه لهؤلاء المشركين أن هذا القرآن هو كتاب الله عز وجل وقد نزل من عنده سبحانه: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ} [فصلت:52] أيها المشركون! وكفرتم به يا أهل الكتاب! وشهد شاهد منكم يا أهل الكتاب على أن هذا القرآن هو من عند الله، فكتاب موسى مثل هذا القرآن، فهذا كتاب شريعة وهذا كتاب شريعة، فآمن بالتوراة وبهذا القرآن الذي جاء من عند الله.
ثم قال: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ} [فصلت:52]، والخطاب هنا للمشركين, وقد نزلت هذه الآيات الآيات في إسلام عبد الله بن سلام رضي الله عنه، فهذه الآية الوحيدة مدنية، وباقي السورة كله مكي، كلها مكية، وقيل: آيتان من هذه السورة مدنيتان والباقي مكي.
فالذي شهد أن هذا القرآن من عند الله عز وجل هو عبد الله بن سلام رضي الله عنه، وكان من أحبار اليهود كما قدمنا قبل ذلك، وقد شهد له اليهود بالعلم والتقدم، وشهدوا له ولأبيه ولجده من قبل ذلك، فلما علموا أنه أسلم كذبوا وجحدوا ما قالوه، وقالوا فيه وفي أبيه شراً، والله عز وجل يكذبهم ولا يقبل منهم، قال: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ} [الأحقاف:10] هذا الشاهد وهو عبد الله بن سلام - {وَاسْتَكْبَرْتُمْ} [الأحقاف:10] أيها اليهود، واستكبرتم أيها المشركون، بل بلغ الأمر أن المشركين كانوا يسألون اليهود عن النبي صلى الله عليه وسلم: أينا أهدى سبيلاً؟ فقال الذين كفروا من أهل الكتاب للمشركين: أنتم أهدى من الذين آمنوا سبيلاً.
فاليهود يعرفون الله سبحانه، ويعرفون موسى عليه الصلاة والسلام، ويعرفون التوحيد، ويعرفون أن هؤلاء المشركين يعبدون أصناماً لا تنفع ولا تضر، ومع ذلك كان هذا جوابهم لما سألهم الكفار: أينا أهدى سبيلاً نحن الذين نعبد الأصنام أم النبي صلوات الله وسلامه عليه الذي يوحد الله ويعبده؟ فإذا باليهود الكلاب الخنازير لعنة الله عليهم يقولون لهم: أنتم أهدى من الذين آمنوا سبيلاً.
فانظر إلى هذا الكذب! فهم يعرفون أن هؤلاء أهل باطل، ولكن الكفر والجحود والاستكبار على دين الله عز وجل، والغرور بما هم فيه من الدنيا دفعهم إلى أن يلغوا عقولهم، ويكذبوا على الله وعلى رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، فقالوا: أنتم أهدى من الذين آمنوا سبيلاً.
بل ويحتالون كل الحيل فيقول بعضهم لبعض: {آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [آل عمران:72] أي: تعالوا وقولوا له في أول النهار: سنتبعك، وفي آخر النهار نرجع عن قولنا؛ لأجل أن يتزعزع المؤمنون في دينهم فيتركوه، فأخبر الله سبحانه عن هؤلاء أنهم مستكبرون قال: ((فَآمَنَ)) أي: عبد الله بن سلام ((وَاسْتَكْبَرْتُمْ))، والمستكبر: هو الذي يعرف الحق ومع ذلك يرفض أنه يتبع هذا الحق؛ عناداً وكبراً وغروراً وفرحاً بما هو فيه، وخوفاً من أن تضيع منه الرياسة والملك، فهؤلاء استكبروا عن أن يدخلوا في دين النبي صلى الله عليه وسلم، قال الله عز وجل: ((إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)).
وأعظم الظلم الشرك بالله سبحانه، فإذا استكبر الإنسان على دين الله استحق أن يطبع الله ويختم على قلبه وسمعه وبصره، ويجعله لا يفهم ولا يعي ولا يتبع؛ حتى يكون من أهل النار في الآخرة والعياذ بالله! ((إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)) أي: إن الله لا يهدي الذي يظلم نفسه ويظلم غيره، الذي يكفر بدين الله سبحانه ويقع في الظلم الأكبر، وكأن الظالم عقوبته في الدنيا أن يضله الله عز وجل، فإذا ظلم نفسه وظلم غيره استحق ذلك، ولما قال: ((إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)) عممهم، فكل ظالم يستحق أن يطبع الله عز وجل عليه، وكل حسب ظلمه، فاحذر أن تكون ظالماً، فإن من عقوبة الظلمة أن يختم الله عز وجل على قلوبهم فيضلهم ولا يهديهم، ويمنع عنهم نوره سبحانه بظلمهم.
ولما عاقب الله الذين هادوا قال سبحانه: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا * وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء:160 - 161].
فهؤلاء بشركهم بالله سبحانه ظلموا أنفسهم وظلموا غيرهم، فاستحقوا عقوبة الله عز وجل، وكذلك كل ظالم يستحق من الله عز وجل أن يطمس على عينيه وبصيرته، وأن يطبع ويختم على قلبه، ويجعل عليه غشاوة إلا أن يرجع ويتوب إلى ربه سبحانه.