قال سبحانه وتعالى: {وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف:86].
الله في السماء إله، وفي الأرض إله، وهو الرب الذي يملك ويحكم في السموات وفي الأرض، أما ما يدعون من دونه فليسوا بشيء، لا يملكون شيئاً، والكفار يشهدون أن هؤلاء الذين يدعون من دون الله لا يملكون شيئاً، وهم يعلمون أن هذه الآلهة التي يعبدونها لا تملك شيئاً، لكن يزعمون أنها تملك الشفاعة، فيعبدون الأحجار ويقال لأحدهم: هل هذا الحجر ينفعك؟ يقول: لا، لا ينفع ولا يضر، فيقال: لماذا تعبده؟! قال: من أجل أن يقربني إلى الله زلفى، فهذا هو الذي أثبته الكافر، فهو يعرف أن الصنم لا يملك شيئاً، فلا ينفع ولا يضر، ولكن يزعم أنه ينفعه عند الله يوم القيامة، ويشفع له فالله عز وجل ينفي هذا الذي زعموه فيقول: {وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ} [الزخرف:86]، فهم لا يملكون شيئاً، ولا يملكون هذه الشفاعة المزعومة، فالشياطين تدلس على الإنسان، تجعله يفتري على الله سبحانه وتعالى، فهذا الكافر الذي عبد الأحجار يزعم في نفسه أنه متواضع، وأنه لذلك لا يتقرب إلى لله عز وجل مباشرة، فهو أحقر من ذلك، لكن يعبد هذا الصنم، وهذا الوثن، وهذا الحجر، مع أنه يعرف أن الحجر حقير، فهو يدوس عليه، وهو الذي صنعه بيده، فيعبده ويزعم أنه متواضع، وأنه يعبد الحجر لأنه أذل من هذا الحجر، فيعبد الحجر حتى ينفعه الحجر عند الله! فالشيطان يزين له هذا الباطل والكذب، مثلما زين لهؤلاء المشركين أن يطوفوا بالبيت عراة نساءً ورجالاً، والمرأة كانت تطوف بالبيت عارية، تنتظر الليل من أجل أن تطوف بالكعبة، وتقول: كيف أطوف بالبيت في ثياب عصيت الله فيها؟! والرجل يقول: لا أطوف بالبيت في ثوب عصيت الله فيه، وما ذنب الثياب؟! فالشيطان كان يضحك عليهم، ويلبس عليهم بذلك.
فالإنسان أحياناً يتظاهر بأنه متواضع وأنه خاشع ومخبت، وهو كاذب في هذه الدعاوى كلها، مثلما يجيء جاهل إلى إنسان ويقول: يا سيدي فلان اعمل لي كذا، وأعطني كذا، واجعل ربي ييسر لي كذا، وأنت لماذا لا تدعو الله مباشرة؟ لماذا تدعو سيدك فلان؟ وماذا يملك هو لنفسه حتى يملك لك أنت؟! وهذا نبينا صلوات الله وسلامه عليه يدعو ربه: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد)، يدعو الله عز وجل أن يحفظ التوحيد في حياته وبعد مماته صلوات الله وسلامه عليه، ويبرأ إلى الله عز وجل من قوم يدعونه في قبره صلى الله عليه وسلم، فالذي يدعى هو الله سبحانه وتعالى وحده، فلا يدعى أحد معه سبحانه، فالشيطان يوسوس للإنسان ويزين له الباطل الذي هو فيه، ويقول له: أنت حقير، وعاص، وأنت كذا وكذا، فكيف تعبد ربنا؟! لا، اذهب اعبد الصنم وهو يوصلك إلى الله عز وجل، ادع سيدك فلان وسيدك فلان فهو الذي يوصلك إلى الله، اجعل واسطة بينك وبينه! والله عز وجل يقول: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة:186]، فأجاب الله عن نفسه سبحانه وتعالى، وكأنه يقول: أنا قريب من عبادي، فلا تدعوا شيئاً مع الله سبحانه، ولا تتخذوا وسيلة بينكم وبين الله إلا ما شرعه سبحانه، فاتخذوا إليه الوسيلة بأن تعبدوه وحده سبحانه، فوسيلتكم إليه توحيدكم ربكم سبحانه، وحبكم وطاعتكم له، وتنفيذكم أوامره، وحفظكم لكتابه، ومحافظتكم عليه، وحفظكم لسنة النبي صلى الله عليه وسلم واتباعكم له، فهذه هي الوسيلة، أي: أن تتبع النبي صلى الله عليه وسلم، وتدعو ربك سبحانه متوسلاً إليه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، فهذا هو التوسل إلى الله عز وجل الذي ينفعك، وهذا التوسل مبني على عمل منك أنت، وليس من غيرك، فتتوسل إليه لأنك حفظت أسماءه الحسنى وعرفت صفاته، وهذا عمل منك أنت تعمله، فحفظك لذلك ودعاؤك له سبحانه وتعالى، وتوسلك إليه باتباعك للنبي صلى الله عليه وسلم؛ هذا عمل أنت تتوسل به إلى أن يعفو الله عز وجل عنك، وأن يستجيب لك، وأن يغفر لك سبحانه وتعالى.
أما هؤلاء المشركون فقد زعموا التواضع المكذوب فقالوا: نحن أحقر من أن نعبد الله، فنعبد هذه الأصنام من أجل أن تقربنا إلى الله سبحانه؛ لأنها تملك الشفاعة، فقال الله عز وجل: {وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ} [الزخرف:86]، وإلا هنا استثناء، إما أن يكون استثناءً متصلاً بما قبله، أي أثبت شيئاً وأخرج منه آخر، وهذا استثناء متصل، أو أنه نفى شيئاً ولم يخرج منه شيئاً فهذا استثناء منقطع بمعنى: لكن.
وهؤلاء الذين يعبدون من دون الله هم: الملائكة، والجن، والأصنام، وعزير، والمسيح، وكل هؤلاء لا يملكون الشفاعة إلا من استثنى الله سبحانه وتعالى أن يأذن لهم، فيأذن لمن أطاع، ويأذن للمسيح أن يشفع للمؤمنين الموحدين الذين لم يعبدوه من دون الله سبحانه، فالمعنى: إلا من شهد بالحق، أي: شهد شهادة التوحيد أن لا إله إلا الله، ولا يستحق العبادة إلا الله سبحانه وتعالى، وشهد بالحق لله سبحانه وتعالى، وهم يعلمون.
فقوله: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف:86] أي: بتوحيد الله سبحانه، موقنون أنهم رسل الله عليهم الصلاة والسلام، وأنهم عبيده سبحانه، فالله يأذن لهم في الشفاعة بإذنه سبحانه وتعالى.
فالذين يشهدون بالحق من هؤلاء كرسل الله عليهم الصلاة والسلام، وهم يعلمون أن الله يأذن لهم يوم القيامة في الشفاعة بالحق، فهؤلاء فقط هم الذين يشفعون بعد إذن الله عز وجل لهم في ذلك.