تفسير قوله تعالى: (أم أبرموا أمراً فإنا مبرمون)

قال الله تعالى: {أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ} [الزخرف:79] (أم) الإضرابية المنقطعة المقدرة ببل والهمزة، أي بل أأبرموا كيداً؟ أيدبرون تدبيراً ويكيدون للنبي صلى الله عليه وسلم؟ ومن أفحش ومن أشنع ما صنع هؤلاء أنهم اتبعوا أبا جهل لعنة الله عليه وعلى أمثاله، ووقفوا يتشاورن ما الذي يصنعونه بالنبي صلى الله عليه وسلم، فكانت نصيحة هذا الملعون لعنة الله عليه أن قال: لنأخذ من كل قبيلة رجلاً، حتى نوزع دم النبي صلى الله عليه وسلم بين أربعين قبيلة، فنأخذ من كل قبيلة رجلاً، فيضربونه ضربة رجل واحد، فيتوزع دمه في القبائل، فبنو هاشم لن يستطيعوا قتال أربعين قبيلة، فسيرضون بالدية، ويضيع دمه صلى الله عليه وسلم.

وجمعوا فعلاً أربعين رجلاً قوياً من أربعين قبيلة، واجتمعوا ليلة هجرته صلوات الله وسلامه عليه عند بابه يريدون قتله، والنبي صلى الله عليه وسلم يؤيده ربه، فأمره أن يهاجر إلى المدينة صلوات الله وسلامه عليه، يقول سبحانه: {أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا} [الزخرف:79]، فهم فعلاً أبرموا وكادوا، واجتمعوا حول بيت النبي صلى الله عليه وسلم.

قال الله: {أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا} [الزخرف:79] بنون العظمة، أي: مبرمون {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} [الطارق:15 - 17]، ويخرج النبي صلى الله عليه وسلم من بيته أمامهم، ويأخذ حفنة من التراب، ويضع على رأس كل منهم شيئاً من التراب، ويعمي الله عز وجل أبصارهم فلا يشعرون، وناموا وهم ينتظرونه صلى الله عليه وسلم، ويخرج صلى الله عليه وسلم مهاجراً، والله عز وجل يدبر لنبيه صلوات الله وسلامه عليه حتى لا يستطيعوا إدراكه، فيخرج إلى الغار صلوات الله وسلامه عليه ويختبئ في الغار ثلاثة أيام، وهم يبحثون في كل مكان عن النبي صلى الله عليه وسلم حتى ذهبوا إلى الغار الذي فيه النبي صلوات الله وسلامه عليه يبحثون عنه، وأبو بكر الصديق يخاف من ذلك، ويقول للنبي صلى الله عليه وسلم: (لو نظر أحدهم أسفل منه لرآنا، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟)، فاطمأن أبو بكر رضي الله عنه.

ويأتي الكفار ويقف أحدهم فوق الغار، ولا ينظر داخل الغار، ويعمي الله عز وجل أبصارهم، ويرجعون، ويخرج النبي صلى الله عليه وسلم بعد ثلاث ليال من هذا الغار متوجهاً إلى المدينة، وإذا برجل من الكفار يسمع قومه يقولون: أنهم رأوا سواداً في المكان الفلاني، فيقول القائل: أظنه محمداً وصحبه، صلوات الله وسلامه عليه، فيقول سراقة بن مالك بن جعشم: لا، أنا أرسلت فلاناً إلى المكان الفلاني، وهو لم يرسل أحداً، ولكن أحب أن يفوز بالدية التي جعلها الكفار لمن سيأتي بمحمد أو يقتله، وهي مائة جمل، فهو يريد أن يفوز بذلك، ويذهب إلى بيته، ويأمر جاريته أن تجهز له فرسه من خلف داره حتى لا يراه الكفار، ويركب فرسه، ويسرع في الطريق الذي علم أن النبي صلى الله عليه وسلم توجه إليه، ورأى النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي عليه الصلاة والسلام من عادته أنه لا يلتفت أبداً وراءه ولا يخاف؛ لأن الله معه سبحانه وتعالى، فقال أبو بكر وقد رأى ما وراءه: يا رسول الله! هناك من يتبعنا! فالنبي صلى الله عليه وسلم يطمئن أبا بكر، وأبو بكر يلتفت ويخاف أن يأتي هذا الكافر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما اقترب من النبي صلى الله عليه وسلم إذا بقدمي الفرس تغوص في رمال الأرض، فتساءل سراقة: لماذا تغوص أقدام الفرس؟! فأخرج خريطة من جيبه، واستقسم بالأزلام، قال: فخرج الذي أكره ثلاث مرات، قال: فعصيت، فغاصت قدما الفرس، فنادى النبي صلى الله عليه وسلم: ادع لي ولا أؤذيك، فدعا له، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومعه طعام وشراب، وقال: خذ هذا وتزود به، فلم يأخذ منه شيئاً صلوات الله وسلامه عليه، فقال: سأرجع وأعمي عنكم، ولن أقول لأحد أنكم في هذا الطريق، وبعدما كان هذا الرجل حرباً على النبي صلى الله عليه وسلم في أول النهار إذا به يعمي على الكفار في آخر النهار، فيرجع ويقول: كفيتكم هذا المكان، لا يوجد أحد في هذا المكان! والله تبارك وتعالى يسخر لنبيه ما يشاء حتى يصل إلى المدينة آمناً صلوات الله وسلامه عليه.

وأول من رآه بالمدينة عليه الصلاة والسلام رجل يهودي، فصاح فإذا بالناس يجتمعون ويخرجون يستقبلون النبي صلوات الله وسلامه عليه، فالله يسخر لنبيه من يشاء من جماد كالغار، فيحميه الله سبحانه وتعالى به من الكفار، ومن رجل من الكفار يلحقه فإذا بالله عز وجل يجعله سلماً له ودفاعاً عنه، ويصل إلى المدينة فإذا بيهودي ينادي أن النبي صلى الله عليه وسلم قد وصل إلى المدينة! قال سبحانه: {أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ} [الزخرف:79] أبو جهل كان يريد أن يقتلك قبل هجرتك، وفي السنة الثانية من الهجرة يقتل أبو جهل ومن معه من الذين كادوا للنبي صلوات الله وسلامه عليه، فقد هاجر النبي صلى الله عليه وسلم من مكة في السنة الأولى من الهجرة في شهر ربيع أول، وفي السنة التي تليها كانت غزوة بدر في رمضان، وإذا بهذا الكافر أبي جهل يقتل ومن معه، ويساق ملعوناً إلى نار الجحيم، {أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ} [الزخرف:79]، أنت كنت تكيد قبل سنة ونصف في مكة، وتجمع أربعين رجلاً ليقتلوا النبي صلى الله عليه وسلم، والآن يقتلك أصغر الشباب الذين مع النبي صلى الله عليه وسلم، شابان صغيران، يقتلان هذا الرجل المعلون أبا جهل، ويلقى جيفة نتنة في قليب بدر! قال الله: {فَإِنَّا مُبْرِمُونَ} [الزخرف:79] فإذا دبر الله وقضى أمراً فلا بد أن يكون.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015