{لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [الزخرف:78]، جاء الحق من عند رب العالمين، وجاءت رسل الله عليهم الصلاة والسلام، وجاء النبي بالنور المبين من عند رب العالمين، قال: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [الزخرف:78] فأكثر هؤلاء الكفار كرهوا هذا الحق الذي جاء من عند رب العالمين سبحانه.
قال بعض المفسرين: أكثر هنا بمعنى كل، يعني كلكم للحق كارهون، وقيل: الأكثرية هم كبراء القوم، فهم كرهوا ذلك، والصغار تابعوا الكبار فيما كرهوا وما قالوا، فالكبار أعرضوا عن الدين غيظاً من النبي صلى الله عليه وسلم وحسداً له على ما آتاه الله عز وجل من نعمة ومن نور ومن رسالة، واستضعفوا صغارهم فأخذوهم معهم، والصغار منهم من كره ومنهم من لم يكره، ولكن تابعوا الكفار الكبار فيما هم فيه، فالأكثرية من هؤلاء المشركين كرهوا ما آتى الله النبي صلى الله عليه وسلم، وعرفوا أنه سيكون معه الأمر والنهي من رب العالمين، وقد اعتاد هؤلاء الكبراء أنهم هم الذين يأمرون، وهم الذين ينهون، ولا أحد يأمرهم، ويظن كل منهم أنه يصلح أن يكون ملكاً، فكيف يأتي النبي صلى الله عليه وسلم يأمر وينهى، فكرهوا منه ذلك.
فالأكثر من الكفار يكرهون الحق، والأقل منهم لا يكرهون الحق، ومع عدم كراهتهم لم يتابعوا النبي صلى الله عليه وسلم فاستحقوا النار، مثل أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه لم يكره ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، بل ربى النبي صلى الله عليه وسلم، وأحب ما جاء به صلوات الله وسلامه عليه، وقال وهو يموت: والله يا ابن أخي! لوددت أن أقر بها عينك، أي: أنا أحب ذلك، فهو لم يكره ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن خاف أن يقول الكفار عنه بعد أن يموت: إنه جبن من الموت وخاف من الموت فقال: لا إله إلا الله، وماذا يضيره لو قالوا عنه ما قالوا؟ وما الذي سيحصل له بعد أن يموت؟ وكما قالت أسماء لابنها رضي الله تبارك وتعالى عنهما: وهل يضير الشاة سلخها بعد ذبحها؟ فابنها ابن الزبير لما حاربه الحجاج وبنو أمية قال لأمه: إنهم يتوعدوني لو قتلت أن يمثلوا بي، وكان هو من الشجعان رضي الله عنه، فقالت له: هل يضير الشاة سلخها بعد ذبحها؟ فهذا لم يستحضر هذا المعنى أو تغافل عنه، وعادة أهل الجاهلية حب الذكر في الحياة وبعد الموت، ولذلك كانوا يحبون الشعراء، ويقربونهم؛ لأنهم بزعمهم سيخلدون أسماءهم بعد وفاتهم؛ لذلك كانوا يغدون على الشعراء، فإذا قال الشاعر أبياتاً من الشعر يمدحه فيها أعطاه مالاً كثيراً على هذا الذي يقول، لأنه سيبقى خالداً بعدما يموت بهذه الأشعار، فهذا ظن أهل الجاهلية، وكان الكثيرون منهم يكرهون ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم حسداً له صلوات الله وسلامه عليه؛ لأنه أتى بالحق من ربه، وسيكون له الأمر عليهم، وقليل منهم لم يكرهوا ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، بل منهم من كانوا يحبون النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن يستحيون من قومهم أن يتابعوا النبي صلى الله عليه وسلم، والجميع لم يدخلوا الإسلام، فاستحقوا جميعاً النار، ويقال لهم وهم في النار: {لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [الزخرف:78]، كرهوا الحق فوقفوا مدافعين عما هم فيه من باطل.
ولذلك إذا غزا جيش من الكفار المسلمين يقاتل الجميع، حتى ولو قال بعضهم: أنا لم أخرج لقتال، فالمعاملة بالظاهر، ولذلك لما أسر العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم في يوم بدر، وكان مع الكفار، والعباس كان مسلماً، قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أنا مسلم، فإذا كنت مسلماً فما الذي جعلك تأتي مع الكفار، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ولكن ظاهرك كان علينا)، أي: أنت أسرت وأنت مع هؤلاء، فالظاهر أنك كنت علينا، فنعاملك بالظاهر، وسريرتك إلى الله عز وجل.
فهؤلاء الذين كرهوا ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم تابعهم الضعفاء؛ أملاً في أن ينالوا من هؤلاء الأقوياء والجبارين أموالاً أو مناصب في الدنيا أو يكونوا أتباعاً لهم، فالله عز وجل أدخل الجميع النار، وقال: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [الزخرف:78].