فما كان لبشر أن يكلمه الله إلا بهذه الصور الثلاث: الصورة الأولى: قال تعالى: (إِلَّا وَحْيًا)، فيوحي إلى أنبيائه عليهم الصلاة والسلام، والوحي: هو الصوت الخفي الذي يأتيه فيدخل في قلبه، فيعقل ويفهم، ولا يعتريه شك في ذلك، ثم يتكلم بذلك، ولذلك جاء في الحديث: (إن روح القدس نفث في روعي -والروع هو القلب والنفس- أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب)، فهذه طريقة من طرق الوحي.
ومن هذه الصورة ما يراه في المنام صلوات الله وسلامه عليه، ورؤيا الأنبياء كلها وحي.
الصورة الثانية: (أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ) أي: أن يتكلم الله عز وجل مع نبي من أنبيائه من رواء حجاب، كما كلم موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف:143]، أي: أن موسى بعدما سمع كلام الله أراد أن ينظر إليه {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف:143].
فطلب موسى طلباً ليس له، وليس لأحد أن يرى الله في هذه الدنيا، {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً} [الأعراف:143]، خر الجبل مندكاً، وخرّ موسى أيضاً صعقاً، فلما أفاق قال: آمنت أنك لا ترى في هذه الدنيا، إذاً فالله سبحانه يخبر هنا أنه لا يرى في هذه الدنيا.
ولما صعد النبي صلى الله عليه وسلم في قصة المعراج وصل إلى سدرة المنتهى، فإذا بجبريل يقف هناك كأنه حلس بالي، ويصعد النبي صلى الله عليه وسلم فوق ذلك، ومع ذلك لم يرَ ربه سبحانه، ورأى نوراً، وكلمه ربه ففرض عليه الخمس الصلوات، فلما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: (أرأيت ربك؟ قال: نور أنى أراه) فحجابه النور سبحانه لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما وصل إليه من نوره.
فالغرض أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى نوراً، قال تعالى: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:11]، إذاً فقد رآه بقلبه صلوات الله وسلامه عليه، وأما بعين بصره فلم ير ربه عليه الصلاة والسلام، وإنما سمع ربه، فكلم الله موسى على الأرض، وكلم محمداً فوق السموات صلوات الله وسلامه عليه، فشرفه وكرمه عليه الصلاة والسلام.
وأكرم المؤمنين بأن فرض عليهم الصلوات الخمس في السموات، فقد عرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء، ثم نزل بهذه الفريضة العظيمة التي هي نور وهي الصلاة.
فهنا وحي من الله أن يكلم عبداً من عباده، فكلم موسى عليه الصلاة والسلام، وكلم محمداً صلوات الله وسلامه عليه في السماء وليس في الأرض.
الصورة الثالثة: (أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا)، فيأتي جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإلى الأنبياء قبله، ولم يرَ النبي صلى الله عليه وسلم جبريل على هيئته الحقيقية إلا مرتين اثنتين فقط، فهو ملك عظيم له ستمائة جناح، وقد سد الأفق عليه السلام، قال الله عز وجل: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:11]، هذا وهو في السماء عليه السلام: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم:17] أي: حين نظر إلى السماء وحين رأى جبريل في ليلة المعراج على هيئته الحقيقية، فلم يزغ بصره صلوات الله وسلامه عليه في كل ما رآه، ومن ضمن ما رآه أنه رأى جبريل عليه السلام.
فالغرض أن الله يوحي لأنبيائه بصورة من هذه الصور: إما وحي ينفث في روعه، وإما أن الله عز وجل يكلمه من وراء حجاب، وإما أن يرسل جبريل أو من يشاء الله عز وجل فيكلم هذا النبي بوحي فيه، فيوحي بإذنه سبحانه ما يشاء من أحكام للعباد.
وقوله: (أو يرسلَ رسولاً) هذه قراءة الجمهور؛ لأنه قال قبلها: (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا)، أي: إلا أن يوحي إليه، فصار (أو يرسل) معطوفاً على (أن يكلمه)، وهو منصوب، أو أنها مستأنفة، فكأنها جملة مبتدأة، فقراءة نافع وابن ذكوان: (أَوْ يُرْسِلُ)، أي: هو سبحانه يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء إلى هذا النبي ليبلغ خلق الله بذلك.
وقوله: (إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ) فله علو الشأن، وعلو الذات، وعلو القدر، فشأنه عظيم، وقدرته عظيمة سبحانه، وهو فوق سماواته العلي العظيم.
وهو حكيم فيما يصنع، فأفعاله كلها حكمة، ويحكم بما يريد.
نسأل الله من فضله ورحمته إنه على كل شيء قدير.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.