وأما لماذا جعل لهذا الذكور ولهذا الإناث؟ ولماذا أعطى لهذا عشرة وأعطى لهذا واحداً؟ ولماذا أعطى هذا كذا؟ فالله يفعل ما يشاء سبحانه، وذلك لحكمة لا نعلمها نحن، فعنده الحكمة والحجة البالغة سبحانه، ختم ليقطع عن الإنسان الجدل والمماراة في ذلك، فهو العليم سبحانه، وهو أعلم حيث يجعل ما يشاء سبحانه، فهو عليم وهو قدير على كل شيء.
وقد ذكر الإناث والذكور ليرينا كمال خلقته سبحانه، وإن كان أيضاً يخلق خلقاً ناقصاً ليرينا الآيات وأنه على كل شيء قدير، فوهب الذكور لمن شاء فنزل ذكراً، ووهب الإناث لمن يشاء فنزلن إناثاً، ومنع من يشاء رحمة منه سبحانه وعلماً منه لمن يستحق ذلك ومن يستحق هذا، ومن يضره هذا الذي يأتيه.
فالله عز وجل قد يجعل الإنسان عقيماً، ولا يتفكر الإنسان لعل الله إذا أعطاه الولد فقد يكون عاقاً، ويقول: يا ليتني لم أخلف، وهناك أناس على هذه الحالة، فتجد أحدهم يقول لك: ابني يعمل المنكرات وقد أتعبني، ودائماً أذهب وراءه إلى مركز الشرطة، يا ليتني لم أخلف! فالله سبحانه أعلم بالحكم في ذلك، وقد ذكر الله لنا في القرآن في سورة الكهف قصة موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام مع الخضر عليه السلام، وكيف أنه أراه الله عز وجل الآيات فلم يصبر على ما يراه، ومن ضمن ما أراه أنهما أتيا على غلام، فإذا بالخضر يقتل هذا الغلام، فأنكر موسى هذا، وقد أخذ عليه الخضر العهد ألا يعترض على شيء، وألا يسأله عن شيء حتى يحدث له منه ذكراً، فلم يطق موسى ذلك وقال: {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ} [الكهف:74]، فهي نفس لم تعمل فيك شيئاً، ولا وقعت في شيء، ومازالت صغيرة في السن، فلمَ قتلته؟ {أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا} [الكهف:74] وهذا نبي وهذا نبي، وموسى أحد أولي العزم من الرسل، ومع ذلك أراه الله عز وجل أنه لا يعرف كل شيء، فهذا نبي من الأنبياء وهو يعرف أكثر منك، فقد أعلمه الله أشياء من المغيبات ففعل ذلك.
وفي آخر القصة قال له: {وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا} [الكهف:80]، فانظر رحمة الله سبحانه على الأب والأم، فرحمة منه أن هذا الغلام يموت وهو صغير، وإذا عاش فإنه سيخرجكما عما أنتم عليه من إيمان، فخشينا أن يرهقهما وأن يتعبهما وأن يؤذيهما بكفره فيضطران لمتابعته على الكفر، فيكفران هما أيضاً مع ابنهما: {فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا} [الكهف:80 - 81]، أراد الله سبحانه أن يبدل الأم والأب من هو أفضل من ذلك، وأقرب رحماً.
إذاً: فالله عز وجل يصنع بعبده الشيء الذي قد لا يعجب العبد، فيقول: لماذا الله حرمني؟ ولا يعلم أن الله هو العليم القدير سبحانه، فقد منعك بقدرته سبحانه وهو القادر على أن يعطيك، ولكن لا يصلح لك ذلك، فالله أعلم بالذي يصلح لك حتى تستمر على الإيمان، وحتى تستمر على الطاعة، وحتى تستمر إلى أن تدخل الجنة، فقد لا يصلح لك أن يكون عندك ولد، ولذلك منعك لحكمة عنده سبحانه.
قال تعالى: (إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) أي: عليم بعباده، وبمن يستحق ذلك ومن ينفعه ذلك، ومن لا يستحق ومن يؤذيه ويضره ذلك، (قَدِيرٌ) فأرانا آياته، فهذا إنسان ينزل وهو كامل، وهذا آخر ينزل سقطاً، فتجد المرأة تسقط في الشهر الثالث أو في الرابع أو في الخامس، فينزل غير مكتمل، فترى هذا الخلق الغير مكتمل الذي نزل الآن من بطن أمه على هيئة من هيئات النقصان، تجده لا يوجد له يدان، فخلقه الله عز وجل آية للعباد، لنحمد الله عز وجل على ما أعطانا، ولو شاء الله لجعلنا مثل هذا الإنسان، فالله عز وجل على كل شيء قدير.
وتلد المرأة الإنسان فينزل أعمى أكمه، فالله عز وجل يرينا هذا الناقص حتى تحمد الله على ما أعطاك سبحانه.
وجعل ذكوراً وجعل إناثاً، ونرى في خلق الله الخناثى، والخنثى: هو الذي له فرج وله قبل، فله ما للرجل وله ما للمرأة، فيجعل الله عز وجل ما يشاء ليرينا آياته، ويحصل الإشكال عند الناس: فهل الخنثى هذا سنعامله معاملة الذكر أو معاملة الأنثى؟ وإذا صار وارثاً فكيف سنورثه؟ فالله سبحانه تبارك وتعالى يرينا بعض الأشياء لنعرف قصور أذهاننا، وضعف عقولنا، فيجلس الإنسان يفكر ويحتار، وقد يلهمه الله عز وجل الفكرة على يد إنسان آخر.
وقد كان أهل الجاهلية لا يعرفون مسألة الخنثى وأنه يولد مولود خنثى، إلى أن جاءت قضية خنثى إلى فارض العرب عامر بن الظرب، وقد كان سيد القوم، وكان من كبرائهم ومن شيوخهم الذين يرجعون إليهم في الأحكام فيقضي بينهم، ويرجعون إليه في الفرائض قبل الإسلام، وذات مرة ولد لأناس مولود خنثى، فلما جاء وقت الميراث احتاروا كيف يورثون هذا الخنثى؟ فذهبوا إلى عامر بن الظرب، وأخبروه أن عندهم ولداً خنثى، ولا يدرون كيف يورثونه، وقد كان من عادة العرب أنهم يورثون الذكور ولا يورثون الإناث، فاستشكل عليهم: هل نعتبره ذكراً ونعطيه أم نعتبره أنثى ولا نعطيه شيئاً؟ فسألوه، فاحتار الرجل وجلس يفكر، وقد كان سيد القوم، وكان من أكرم القوم، فمن أراد طعاماً أو شراباً فإنه يذهب إلى عامر بن الظرب، وكلمة (الظرب) معناها الجبل، أي: عامر بن الجبل.
فاحتار عامر: كيف سيورث هذا؟ فذهب إلى بيته ونام، فجعل يتقلب على سريره، فجاءته جاريته وسألته، وقالت: ما لك مضطرباً من أول الليل؟ فقال: لقد سألوني عن شيء لعلي أجد عندك مخرجاً، فقالت: وما ذاك؟ قال: هناك خنثى لا ندري كيف نورثها، قالت: هذا الذي أرقك؟! قال: نعم، قالت: ورثه من حيث يبول، ففطن الرجل وأصبح وقضى بينهم، فقال: انظروا من أين يبول من فرج الأنثى أو من ذكر الرجل، فمن حيث بال فإنه يعتبر به، فصار بعد ذلك حكماً، وجاء الإسلام وأقر ذلك، واستقر الأمر على هذا الذي قالته هذه المرأة.
فالغرض: أن الله عز وجل يرينا آياته سبحانه، يرينا أنه العليم، وأن فوق كل ذي علم عليم: فلا تغتر بعلمك، فقد يظن الإنسان أنه عالم فتأتيه مسألة بسيطة جداً فلا يستطيع أن يجيب عنها ويحتار فيها، ويمكن أن يأتي شخص صغير فيجيب عنها، والكبير لعله لا يدري، كما حدث في هذه القصة التي ذكرنا.