قال الله تعالى: {وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوْا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى:44].
قوله: (وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ) أي: من يخذله الله سبحانه وتعالى فإنه في ضلال، فالإنسان المجرم الذي اتبع الشيطان وترك دين الله سبحانه وتعالى، فإنه مخذول قد خذله الله سبحانه، ومن يهده الله فلا مضل له، قال تعالى: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي} [الأعراف:178] فهذا قد أنعم الله عز وجل عليه بذلك.
فالله سبحانه بيّن لجميع عباده حتى لا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، أنزل الكتب من السماء، وأرسل الرسل يهدون الخلق إلى الله سبحانه، والإنسان المؤمن جعل الله عز وجل قلبه مفتوحاً وعقله مفتوحاً منيراً، فأبصر واختار وعرف الطريق الصواب، والإنسان الكافر أظلم قلبه بكفره وبجحوده بالله.
فإن المعاصي تنكت على القلب نكتاً سوداء حتى يسود القلب، فلم يضئ له الله عز وجل ما أظلم من قلبه، فيبقى في ظلمة لا ينتفع بما جاءه من النور.
والمؤمن أراد الطاعة وأحب ربه سبحانه فأنار الله له قلبه، فإذا به يبصر وينتفع بما جاء من عند الله، فالأول: لم يعطه الله عز وجل نوراً، والثاني: أعطاه الله عز وجل نوراً، فمن أظله الله من الذي يهديه بعد ذلك؟ فمن كان قلبه قد أظلم لم يجعل الله عز وجل فيه ما يضيء له بسبب ما اقترفت يداه.
ومعنى قوله تعالى: (فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ) أي: من سيلي أمره؟ والولي القريب هو الذي يتكفل بأمور الإنسان ويقوم عليها ويدبر له حاله، فهذا من الذي يليه بعد الله سبحانه وتعالى إذا أضله الله فحجب عنه النور؟ فلا هادي لهذا الإنسان وليس له من يلي أمره فيدخله في الإيمان.
ومعنى قوله تعالى: (وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ) أي: حين رأوا العذاب في قبورهم حين كانت قبورهم عليهم حفرة من حفر النار، وكذلك حين رأوا العذاب في يوم القيامة فهم يجأرون ويصرخون، قال تعالى: {ويقولون هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى:44]، أي: هل إلى مرد نرد مرة ثانية إلى الدنيا؟ وهل إلى مرجع إلى الدنيا من سبيل؟ وهل هنالك وسيلة نعتذر بها لنرجع إلى الدنيا؟ فليس هنالك رجوع، فإن الحياة الدنيا مرة واحدة، ثم بعدها الوفاة ثم البعث والجزاء في دار الخلود إما جنة وإما نار، فهذه هي الحياة الباقية.
والله عز وجل قضى أن لا رجوع إلى الدنيا، قال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:99 - 100] ولو أعاد الله الكفار إلى الدنيا فإنهم سيعملون ما حرم الله عليهم، فالله يعلم بتقلبات قلوب عباده، فيعلم جحود من جحد وكفر من كفر وإيمان من آمن، ويعلم أن الكفار لو عادوا إلى الدنيا فإنهم سيرجعون إلى الكفر والجحود، قال تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام:28] أي: لكاذبون فيما يدعون.
وقوله تعالى: (وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ) أي: في وقت الوفاة، عندما تنزل عليهم ملائكة من نار جهنم والعياذ بالله، معهم مسوح من النار لتأخذ أرواحهم فيها، فعندما يرون هؤلاء الملائكة إذا بهم من شدة الرعب والذعر تتفرق أرواحهم في أجسادهم فتسحبها الملائكة وتخرجها بقوة، فيتمزق منها العروق والعصب كالشوك الكثير الشعب في الصوف المبلول.
فإذا وضعت صوفاً مبلولاً وبداخله أشواك مختلفة ومتفرعة وحاولت أن تسحب الشوك فإن الصوف يتمزق، والشوك يتكسر، فهؤلاء تنزع أرواحهم بهذه الطريقة، تتفرق في أجسادهم من شدة الرعب فتسحب وتؤخذ بقوة، ويقال لها: أيتها النفس الخبيثة! كنت في غضب من الله فاخرجي إلى غضب من الله سبحانه وتعالى.
فهذا في الفجار، وهذا أول ما يكون مما يرون من العذاب، ثم إذا حملوا على النعش وذهب بهم إلى قبورهم فإن روح كل منهم تقول: يا ويله! إلى أين تذهبون به؟ لا يريد أن يصل إلى القبر؛ لأنه يعرف ما الذي ينتظره هنالك، فسوف ينزل إلى القبر فيجده حفرة من حفر النيران والعياذ بالله.
فهذا العبد يقول: (هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ)،
و صلى الله عليه وسلم لا، ليس هناك مرد مرة ثانية، فإذا قامت الساعة فإن الكافر أو الفاجر في قبره عندما يفتح له باب إلى النار فيرى ما ينتظره هنالك فإنه يقول: رب لا تقم الساعة، رب لا تقم الساعة.
والمؤمن يرى النعيم الذي هو فيه وهو في القبر ثم يفتح له باب إلى الجنة فيقال له: هذا منزلك من الجنة، فيقول: رب أقم الساعة، كي أعود إلى أهلي ومالي في الجنة، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من أهل جنته ورحمته سبحانه.