الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، أما بعد: قال الله عز وجل في سورة الشورى: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ * وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ * وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ * اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ * فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الإِنسَانَ كَفُورٌ} [الشورى:44 - 48].
في هذه الآيات يخبرنا الله سبحانه وتعالى عن قضائه وقدره، وأنه بيده مقاليد كل شيء، فيهدي من يشاء وهذا من فضله سبحانه، ويضل من يشاء بعدله سبحانه وتعالى، قال جل شأنه: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46]، وقال أيضاً: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49].
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه الإيمان بالقضاء والقدر، وأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأن الله بيده مقاليد كل شيء، وكان صلى الله عليه وسلم يحمد ربه سبحانه ويقول: (اللهم لك الحمد كله، اللهم لا قابض لما بسطت ولا باسط لما قبضت، ولا هادي لمن أضللت ولا مضل لمن هديت، ولا مقرب لما أبعدت ولا مباعد لما قربت، ولا معطي لما منعت ولا مانع لما أعطيت).
وإذا أراد الله شيئاً فيستحيل أن يكون على غير ما أراده سبحانه وتعالى، فالله قدر كل شيء، وكتب عنده كل شيء، وجعل العباد في هذه الدنيا يعملون ويجازيهم الله على أعمالهم، وهو أعلم بحالهم أيستحقون الجنة أو يستحقون النار؟ خلق خلقه فقال: (هؤلاء في الجنة ولا أبالي وهؤلاء في النار ولا أبالي).
والصحابة رضوان الله عليهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان الأمر قد فرغ منه، فهؤلاء في الجنة وهؤلاء في النار ففيم العمل إذاً؟ فأرادوا أن يجادلوا في القضاء والقدر، فقطع عنهم هذا الأمر، فالقضاء والقدر ليس للجدل فيه مكان وإنما يجب الإيمان به، أن تؤمن أن الله على كل شيء قدير، وأنه قدر مقادير كل شيء سبحانه وتعالى، وأن ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ومن مشيئته أن جعل للعباد مشيئة، قال تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان:30] أي: ما تريدونه وما ستفعلونه قد علمه الله، ولكن جعلكم تكتسبون، فتجازون على ما اكتسبتم.
وقال تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ} [البقرة:286] أي: من خير، {وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة:286] من شر، فالإنسان يكسب ويكتسب، يكسب لنفسه الحسنات ويكتسب عليها السيئات، فاكتساب العبد محل الجزاء.
فالإيمان بالقضاء والقدر عند أهل السنة وسط بين من يقول: العبد مجبور، ومن يقول: ليس هناك قدر والله لا يعلم إلا بعد عمل العبد، فأهل السنة وسط بين الاثنين، فهم يقولون: الله يشاء، والله يعلم سبحانه وتعالى، وما تشاءون إلا أن يشاء الله.
والله كلف العباد وجعل لهم الاختيار فيما يكتسبون، وقد علم الله سبحانه ذلك وكتبه عنده وقدره، فيبقى على العبد أنه يكتسب بكامل حريته، فيكون مختاراً مريداً فاعلاً آخذاً تاركاً معطياً مانعاً، فيرى نفسه تفعل ذلك ولا أحد يجبره.
فالعبد إذا أمسك كوباً من الماء فإنه مختار فيه، فإن شاء شرب الماء وإن شاء لم يشربه، وهذا الاختيار هو الذي يسأل الله عز وجل عنه ويحاسب عليه يوم القيامة، فشرب الماء قد يكون مباحاً أو واجباً عليه حتى لا يهلك نفسه، وقد يكون آثماً في وقت الصيام ويبطل صومه بذلك.
فهنا ثلاث حالات في اختيار العبد في شرب الماء؛ ففي حالة يجب عليه، وفي حالة يباح له، وفي حالة يحرم عليه، ويبقى العبد مختاراً حين يفعل ذلك، فإذا قال العبد: الله أجبرني على ذلك، فإنه يكون كاذباً فيما يقول، فإن الله لم يجبره، وإنما شاء سبحانه وتعالى، وأعطاه مشيئة يختار بها ما يريد فيحاسبه الله على ما اختاره، فيحاسبه على كسبه من خير أو شر.