ذكرنا أن النبي صلوات الله وسلامه عليه قال في الحديث: (المستشار مؤتمن)، وفيه قصة جميلة رواها الإمام مسلم والترمذي، وهذا لفظ الإمام الترمذي عن أبي هريرة، يقول: (خرج النبي صلى الله عليه وسلم في ساعة لا يخرج فيها ولا يلقاه فيها أحد، فأتاه أبو بكر رضي الله عنه فقال: ما جاء بك يا أبا بكر؟! فقال: خرجت ألقى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنظر في وجهه وأسلم عليه.
فلم يلبث أن جاء عمر فقال: ما جاء بك يا عمر؟! فقال: الجوع يا رسول الله! -فقد كان فقيراً لا يجد شيئاً يأكله- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأنا قد وجدت بعض ذلك)، وكذلك أبو بكر ولكنه استحيا، ولذلك جاء في رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال: (أخرجني الذي أخرجكما)، أي: إذا كان أخرجكم الجوع ولم تستطيعوا الجلوس فخرجتم إلى الطريق، فكذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرجه الجوع، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (انطلقوا إلى منزل أبي الهيثم بن التيهان الأنصاري -وهو رجل من الأنصار كان كثير النخل والشاة، ولم يكن له خدم، بل كان يخدم نفسه بنفسه- قال: فلم يجدوه، فقالوا لامرأته: أين صاحبك؟ فقالت: انطلق يستعذب لنا الماء -أي: خرج يحضر لهم ماءً عذباً من بئر بعيد- فلم يلبث أن جاء أبو الهيثم بقربة يزعبها فوضعها، ثم جاء يلتزم النبي صلى الله عليه وسلم ويفديه بأبيه وأمه صلوات الله وسلامه عليه -فقد وجده خير ضيف أتى إليه- فأقبل إليه يحتضنه ويقبله ويقول: فداك أبي وأمي، ثم انطلق بهم إلى حديقته فبسط لهم بساطاً، ثم انطلق إلى نخلة فجاء بقنو فوضعه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أفلا تنقيت لنا من رطبه -أي: أنه أعطاهم قنواً مملوءاً بالبلح، من الأحمر والأسود، وفيه من كل الأنواع، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه: لو أعطيتنا أقل من هذا- فقال الرجل الكريم: يا رسول الله! إني أردت أن تختاروا أو تخيروا من رطبه وبسره -وهذا من كرمه، فإنه لما رأى عليهم علامات الجوع أطعمهم الموجود، ولم يتأخر عليهم- فأكلوا، وشربوا من ذلك الماء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا والذي نفسي بيده من النعيم الذي تسألون عنه يوم القيامة، ظل بارد، ورطب طيب، وماء بارد.
فانطلق أبو الهيثم ليصنع لهم طعاماً، -وهذا بعد أن قدم لهم ما كان موجوداً؛ لشدة جوعهم- فلما انطلق قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تذبحن ذات در -أي: أنه صلى الله عليه وسلم نهاه أن يذبح شاة فيها لبن- فذبح لهم عناقاً أو جدياً -من الماعز- فأتاهم به فأكلوا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هل لك خادم؟ قال: لا، قال: فإذا أتانا سبي فأتنا)، فرد الجميل بالجميل، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أهدى إليه إنسان شيئاً يعطيه المثل والمثلين وأكثر من ذلك، فبما أن هذا الرجل قد أكرمهم فإن النبي صلى الله عليه وسلم سيعطيه عبداً من العبيد يخدمه في المكان الذي هو فيه.
ومما ينبه عليه هنا أن بعض الناس ربما يضحك ممن يقدم للضيف شيئاً قبل الغداء، وقد يقول: إنه ما أعطاهم ذلك إلا لكي يأكلوا بعده ما سيقدمه لهم.
فـ أبو الهيثم بن التيهان لما رأى عليهم الجوع أعطاهم شيئاً يأكلونه، ولو أنه ذهب وذبح الشاة وطبخها لتأخر عليهم وتركهم جياعاً، وهذا من أدبه وكرمه رضي الله عنه، والنبي صلى الله عليه وسلم يعرف كرم هذا الرجل، ولذلك قال له: (لا تذبحن ذات در)، فلما جاء سبي إلى النبي صلى الله عليه وسلم أتاه هذا الرجل، وقد أتى النبي صلى الله عليه وسلم بعبدين لا ثالث لهما، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: (اختر -أي: واحداً من الاثنين رداً لجميله الماضي- فقال أبو الهيثم للنبي صلى الله عليه وسلم: يا نبي الله! اختر لي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم -وهذا الشاهد من الحديث كله-: إن المستشار مؤتمن -أي: بما أنه قد استشار النبي صلى الله عليه وسلم فسوف يختار له الأفضل؛ لأن المشورة أمانة- فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: خذ هذا فإني رأيته يصلي، واستوص به معروفاً).
إن أبا الهيثم له حديقة كبيرة، ونخل كثير، وشاة وغنم كثير، وليس له خادم يخدمه، فهو يخدم نفسه بنفسه رضي الله تعالى عنه، فلذلك أحب النبي صلى الله عليه وسلم أن يعطيه ما ينتفع به، فالإنسان حين يهدي لآخر فلينظر الشيء الذي ينتفع به ويهديه له، وبعد أن أعطاه العبد أوصاه به خيراً، فانطلق أبو الهيثم فرحاً بالعبد الذي أخذه وذهب إلى امرأته وقال: هذا العبد أهدانيه النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبرها بأنه قال: (استوص به خيراً)، وكانت امرأة تقية، فقالت له: ما أنت ببالغ ما قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن تعتقه، وهذا من صلاحها وتقواها، فلم ترض أن ترتاح مع زوجها والعبد يعمل، فأعتق الرجل العبد واستمع لنصيحة امرأته الفاضلة رضي الله عنهما، وقال: هو عتيق، فهذه المرأة أشارت على زوجها بالصواب، وإن كانت تلك المشورة على نفسها.
فعلى الإنسان أن ينصح ولو على نفسه، يقول الله تعالى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ} [النساء:135]، فإذا نصح الإنسان لأخيه كما ينصح لنفسه وأدى الأمانة فلينتظر البركة من وراء ذلك، فهذا الرجل بعد أن أعتق العبد ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم يخبره بما صنع، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للرجل حين سمع منه ما فعل هو وامرأته: (إن الله لم يبعث نبياً ولا خليفة إلا وله بطانتان، بطانة تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر، وبطانة لا تألوه خبالاً)، وقس على ذلك من بعدهم، فكل إنسان يملك أمراً من الأمور، ويعمل عملاً من الأعمال فحوله أناس، وله بطانة، منهم من يأمره بخير، ومنهم من يأمره بشر، فالذين يريدون أن يأكلوا منه ويأخذوا المال يأمرونه بالشر، أو بأي شيء، المهم أن يأخذوا من ورائه المال، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ومن يوق بطانة السوء فقد وقي)، فكأنه يمدح تلك المرأة التي جعلها الله بطانة خير، فقد أشارت عليه بالخير وأمرت بالمعروف.
وهكذا فكل إنسان له بطانتان، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اللهم إني أعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع، ومن الخيانة فإنها بئست البطانة)، فبئست البطانة أن يكون من حولك خونة، ينظرون في مصالحهم فقط، فيعنونك على الخطأ ولا يرشدونك إلى الصواب؛ حتى يأخذوا من ورائك المال، ويحصلوا منك على مصلحة.
فالكبير والصغير من الناس له بطانة سوء تفسد ولا تصلح، وبطانة خير تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ومن يوق بطانة السوء فقد وقي).
نسأل الله عز وجل أن يقينا بطانة السوء، وأن يقينا كل شر في الدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.