ومن صفاتهم: أن أمرهم شورى بينهم، هذه من أخص صفات المجتمع المسلم الذي يحبه الله سبحانه وتعالى، فليس في المجتمع المؤمن من ينفرد برأيه ويلزم الجميع بما يقول، فالله عز وجل مدح هنا المؤمنين ومدحهم في سورة آل عمران، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران:159] فلولا أن عندهم رأياً لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يشاورهم، فمدح الله عز وجل المؤمنين بأن أمرهم شورى بينهم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم يشاورهم في الأمر، ومعلوم أنه لن يشاورهم في الأحكام الشرعية؛ لأن الأحكام الشرعية ليست محل جدل ومناقشة ومحل شورى بين المؤمنين، إنما يشاورهم في أحكامهم الدنيوية، فإذا خرج للجهاد في سبيل الله عز وجل استشار المؤمنين في الطريق: أي طريق يسلكها؟ واستشار المؤمنين كيف يبدأ بأعدائه، وكيف يفعل بهم صلوات الله وسلامه عليه، ويستشيرهم في أمور من أمور الدنيا، أما أمر الدين فهذا وحي السماء ينزل بالأحكام لا مشاورة فيها لا للنبي صلى الله عليه وسلم، ولا لأصحابه، فهو مأمور من ربه سبحانه بأن يفعل فيفعل، والمؤمنون مأمورون بأن يفعلوا فيفعلوا وينتهوا فينتهوا، فالشورى هنا في أمر دنياهم، يشاورهم النبي صلوات الله وسلامه عليه.
وقد جاء عنه صلوات الله وسلامه عليه أنه كان كثير الاستشارة لأصحابه، وهذا من تواضعه عليه الصلاة والسلام، فهو الذي مدحه ربه بأنه لا ينطق عن الهوى، ولا يتكلم بهواه، وإنما يتكلم بوحي من الله سبحانه وتعالى، فلو أنه مدح المؤمنين بأن أمرهم شورى بينهم، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يشاورهم لجاء من بعده فقال: النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يستشير أحداً، فينفرد برأيه، ولكن بدأ بنفسه صلى الله عليه وسلم، وهو رسول الله الذي عصمه الله، والذي أيده ربه بالوحي من السماء، فإذا أخطأ في شيء ينزل القرآن ليصوب له: افعل كذا لا تفعل كذا عليه الصلاة والسلام.
إذاً: فربنا يأمر المؤمنين بهذه الشورى بأمرين: الأول: القرآن، يقول تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران:159] فإذا كان النبي المعصوم عليه الصلاة والسلام يشاور في الأمر فغيره من باب أولى.
والأمر الثاني: مدح المؤمنين بأن أمرهم شورى بينهم، وينفذ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بسنته عليه الصلاة والسلام، فيتعلم من بعده منه.
ذكر الإمام البخاري في صحيحه باباً عن الشورى فقال: باب قول الله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى:38] و {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران:159] وأن المشاورة قبل العزم والتبين؛ {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران:159].
وهذا من جميل ترتيب الإمام البخاري لتراجم أبوابه رضي الله تبارك وتعالى عنه، فيذكر أن الله سبحانه قال: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى:38]، وقال: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران:159] وأن المشاورة قبل العزم، والمعنى: أني أشاور في أن أعزم على أمر، وقد علمنا النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً آخر مع هذه الشورى العظيمة، وهي أن تستخير الخالق سبحانه وتعالى، إذاً: هناك استخارة واستشارة، فتطلب الخيرة من الله سبحانه، تطلب منه أن يختار لك وأن يلهمك الصواب، وأن يوفقك لتسير على ما يحبه سبحانه وتعالى، وقد جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا هم أحدكم بالأمر فليصل ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم أني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر -ويذكر الأمر الذي يستخير فيه- خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فاقدره لي، ويسره لي ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان ثم رضني به).
إذاً: تستخير الخالق سبحانه وتعالى وتستشير المخلوق؛ لأن هذا أمر الله عز وجل، قال تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران:159]، وقال: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى:38]، فإذا ظهر لك الأمر بناءً على الاستخارة، وبناءً على الاستشارة فاعزم عليه وتوكل على الله سبحانه، ولذلك الترتيب الجميل للإمام البخاري، يقول لك: وأن المشاورة قبل العزم والتبين: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران:159].
إذاً: هنا ربنا يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران:159]، أي: إذا أخذت أمراً وقطعته بشيء فامش في هذا الأمر وتوكل على الله سبحانه.
يقول البخاري رحمه الله: فإذا عزم الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن لبشر التقدم على الله ورسوله، قال: وشاور النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه يوم أحد.
المقصود من كلام البخاري: أنه إذا استشار النبي صلى الله عليه وسلم فاتفقوا على أمر: نفعل كذا، ثم بدأ ينفذ النبي صلى الله عليه وسلم نتيجة هذه الشورى فليس لهم أن يرجعوا في كلامهم بعد ذلك، فلا بد أن يفعلوا ما استشارهم فيه صلى الله عليه وسلم وما وصلوا إليه من أمر.