التحذير من الدنيا والاغترار بها

والله سبحانه يحذرنا من هذه الدنيا، قال تعالى: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185]، أي: متاع يستمتع به المغرور، فتراه يستمتع بقوته، وتأتي عليه حالة المرض والضعف، ويستمتع بغناه وتأتي عليه حالات الضياع والفقر فيضيع غناه، ويستمتع بجماله ويأتي عليه الكبر والسن فيذهب الجمال، فهو يستمتع بالغرور لحظات ويضيع بعد ذلك ما استمتع به، فالحياة الدنيا زخرف وزينة، وقد أخذ النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه مرة ليريهم هذه الدنيا، أخذهم إلى مزبلة، أي: قمامة لقوم، وقال: هذه الدنيا، هذا ملحهم وهذا لحمهم، وهذا طعامهم، فالدنيا تتبهرج للإنسان وتتزين له، ويظن أنه حصَّلها، فإذا بها تسحب منه أو يسحب هو منها، هذه هي الدنيا، فإياك أن تفتنك مهما كان لك فيها من شيء، وإياك أن تطلب فوق ما يكفيك، وإذا أخذت ما يكفيك فاحمد الله، فإذا طلبت أكثر من ذلك فقد تطلبه من وجه حرام، فتضيع به.

وقد عرفنا حديث حكيم بن حزام عندما سأل النبي صلى الله عليه وسلم مرة، ومرتين وثلاثاً، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يوقفه ويذكره صلوات الله وسلامه عليه، ويقول له: (يا حكيم! يا حكيم! إن هذا المال خضرة حلوة، فمن أخذه بسخاء نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه وكان كالذي يأكل ولا يشبع).

فالإنسان الذي يطلب ويقول دائماً: هات هات، ويمد يده وينهم عليها لن يستفيد منها بشيء، ولو كان لابن آدم واديان من ذهب لتمنى له ثالثاً، وفي النهاية لا يملأ جوفه إلا التراب، يموت وينزل قبره والتراب هو الذي سيملأ جسده وعينه، وفهم ذلك حكيم بن حزام رضي الله عنه، وكان من أشراف العرب رضي الله تبارك وتعالى عنه، فقال: (فقلت: يا رسول الله! والذي بعثك بالحق لا أرزأ أحداً بعدك شيئاً حتى أفارق الدنيا) أي: لقد علمتني، فمن الآن حتى أموت لن أسأل أحداً شيئاً، وأنا سألتك أنت ولا أسأل أحداً بعدك شيئاً حتى أفارق الدنيا، قال ذلك ووفى رضي الله تعالى عنه، فكان أبو بكر رضي الله عنه يدعو حكيماً إلى العطاء، إذ كان يجعل العطاء للناس من الفيء ومن المغانم، فيأتي بـ حكيم بن حزام ويقول: خذ حقك الذي حصلت عليه من الجهاد وحقك في الفيء وفي الغنيمة، فيقول: لا، ويأبى أن يقبله، ومات أبو بكر وجاء عمر رضي الله عنهما، فكان عمر رضي الله عنه يدعو حكيماً ليعطيه فيأبى أن يقبل منه شيئاً، فقال عمر رضي الله عنه للمسلمين: إني أشهدكم يا معشر المسلمين على حكيم، إني أعرض عليه حقه من هذا الفيء فيأبى أن يأخذه.

رضي الله عنه، فلم يرزأ حكيم أحداً من الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى توفي، ولم يأخذ من إنسان شيئاً، ولم يطلب من أحد شيئاً حتى حقه الذي هو له في بيت المال كان يرفض ويأبى أن يقبله رضي الله عنه؛ لأنه عاهد النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك.

حكيم فعل ذلك وكثيرون فعلوا مثلما فعل حكيم، فكانوا لا يسألون أحداً شيئاً، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يبايع أصحابه على ألا يسألوا أحداً شيئاً، فكان أحدهم تقع عصاه وهو راكب على جمله فينيخ الجمل وهو راكب فوقه وأمامه أناس لو طلب منهم أن يعطوه العصا لأعطوه، فإذا سألوه قال: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على ألا أسأل أحداً شيئاً، هذه هي بيعتهم، فقد بايعهم على أن يكونوا شرفاء في أنفسهم ولا يطلبون من أحد شيئاً، وبايعهم على أن ينزهوا أنفسهم عن مطامع الدنيا ولا يسألون أحداً من هذه الدنيا طالما أنهم يقدرون عليها، فكانوا على ذلك حين فتحوا الفتوح ولم ينبهروا، فتحوا ديار كسرى وديار قيصر ورأوا الذهب والمجوهرات، ورأوا ما فيها من أشياء فلم ينبهروا بها، ولم يمد أحد يده على شيء يأخذه لنفسه، وإنما يرجع كله للأمير ليقسم بين الناس المغانم والفيء بحق الله سبحانه الذي جعله لهم.

ومن الأحاديث التي جاءت عنه صلى الله عليه وسلم ما رواه الإمام أحمد في مسنده عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إني أخاف على أمتي اثنتين: القرآن واللبن)، وتعجب لهذا الشيء؛ إذ خاف على الناس من القرآن وخاف على الناس من اللبن، قال النبي صلى الله عليه وسلم موضحاً ذلك: (أما اللبن فيبتغون الريف، ويتبعون الشهوات، ويتركون الصلوات)، فهذا رجل عنده إبل وعنده بقر، فيأخذ إبله أو بقره فيرعاها بعيداً ويخرج من المدينة، فإذا جاء وقت الصلاة تركها، أو يصليها خارج المدينة، فتراه لا يريد أن يبتعد أكثر عن العشب، وتراه يخاف على بقره وعلى إبله، فيخرج ويبعد عن المدينة شيئاً فشيئاً حتى يترك الصلوات الخمس من أجل أن تدر إبله أو بقره اللبن، وبذلك يحافظ على إدرارها للبن فلا تضمر ضروعها، فيترك الصلوات حتى لا يصلي إلا الجمعة فقط، ثم بعد ذلك يترك الجمعة والجماعة، ولذلك قال لهم: أخاف عليكم اللبن، وليس كل الناس عندهم لبن، وليس كل الناس عندهم بقر، إنما هذا مثال يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: الشيء الذي سيشغلك عن صلواتك احذر منه.

فمن الناس من يقول يوم الجمعة: سأصلي الجمعة في مسجد كذا، فترى كل واحد يوسوس للآخر فيقول: هيا نصطاد وهو يوم جمعة، فيخرج ليصطاد، ويستحلي الصيد في النهار، فيبعد عن المسجد ويقترب من شاطئ البحر ويدخل ليصطاد فيضيع صلاة الجمعة، وهكذا كل يوم جمعة يضيع الجمعة، وهذا هو الذي خاف منه النبي صلى الله عليه وسلم عليكم، وهكذا كلما اغتر الإنسان بشيء من حطام الدنيا منى نفسه بما شاء فيضيع الصلوات، ويضيع الجماعة والجمعة، ونسي الإنسان نفسه بعدما كان مواظباً على الصلوات، فالنبي صلى الله عليه وسلم يخاف عليكم اللبن، وقس على ذلك غيره.

قال: (والقرآن)، أي: أخاف على أمتي القرآن، قال صلى الله عليه وسلم: (يتعلمه المنافقون فيجادلون به المؤمنين).

يتعلم المنافق القرآن، كما ينزل المطر على أرض خصبة فتنبت نباتاً حسناً، وإذا نزل المطر على أرض غير طيبة أنبتت نباتاً غير طيب، والقرآن مطر ورحمة من الله عز وجل ينزل على الجميع، فالإنسان الذي نفسه طيبة ينتفع بهذا القرآن، ويخاف الله سبحانه، والإنسان الذي نفسه خبيثة لا يخاف الله فيتعلم القرآن ليجادل به، فكان يخاف النبي صلى الله عليه وسلم على المؤمنين من جدال المنافقين، يخاف عليهم أن يقال فيهم: فلان شيخ، وهذا الشيخ يفتي بأن البنوك حلال، ولذلك ضاق النبي صلى الله عليه وسلم على أمته ممن يتأول القرآن، فتراه يتأول حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي صرح فيه بمنع بناء المساجد على القبور، يقول صلى الله عليه وسلم: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)، يحذر من ذلك صلوات الله وسلامه عليه، ويقول: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد)، فهذا النبي صلى الله عليه وسلم حذر أصحابه، فيتعلم الإنسان القرآن ويتعلم شيئاً من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه يدخل في الشرك بالله سبحانه.

فتراه يقول ببناء المسجد على القبر، ويقول: ليس في ذلك شيء، بل يتطاول أحدهم ويقول: هذه سنة، وأنتم تميتون السنة أماتكم الله، ونحن نعرف أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبن مسجداً على قبر في حياته، وأما قولك: قياساً على المسجد النبوي، فالنبي لم يفعل ذلك صلى الله عليه وسلم، ولم يجرؤ أحد من المسلمين أن يرفع مقام النبي صلى الله عليه وسلم أو يرفع جسده صلى الله عليه وسلم من قبره ليذهب به إلى مكان آخر، وهو الذي أخبر أن الأنبياء يدفنون حيث يموتون، وقد دفن حيث مات صلى الله عليه وسلم، وحين وسع الصحابة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أخذوا يتحرون أن يتسع المسجد بعيداً عن قبره صلى الله عليه وسلم، حتى انتهى عهد الصحابة وجاء من جاء بعدهم فوسع المسجد وأدخل فيه قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وليس هناك أحد يصلي إلى قبره صلوات الله وسلامه عليه بحيث يكون خلف قبره صلوات الله وسلامه عليه.

إذاً: قبره صلى الله عليه وسلم لا يقاس عليه غيره، فقد حذر أن يتخذ قبره وثناً يعبد صلوات الله وسلامه عليه، كما كان أهل الجاهلية يفعلون عند الأصنام وعند التماثيل، فعندما يأتي إنسان ويتعلم من القرآن ويقول: يا أخي! قال الله في أهل الكهف: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا} [الكهف:21]، فنقول له: هذا شرع من قبلنا، ولا يكون شرعاً لنا، فإن شرعنا شرع مخصوص جاء إلينا ليعم الأمة من عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة، ونسخ ما قبله من الشرائع، فكل ما كان قبلنا منسوخ بشرعنا، وكذلك هل في الآية أن المؤمنين فعلوا ذلك؟ ومن الذي قال ذلك؟ {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ} [الكهف:21]، فولاة الأمور هم الذين قالوا هذا الشيء، وهل ولاة الأمور في كل عصر كانوا على علم بالسنة أو على علم بالقرآن؟ إذاً الذي فعل هم الذين غلبوا على أمرهم، فإن كانوا مؤمنين فهذا شرع من قبلنا وليس شرعاً لنا، إنما شرعنا كلام النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول محذراً من ذلك: وهو في آخر حياته، وهو صلى الله عليه وسلم في مرض وفاته: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ألا أني أحذركم من ذلك)، فيجيء الإنسان ويقول: لا، إنما يقصد ألا تذهب وتسجد له، وهل كان هناك سجود لأحد بعد مجيء النبي صلى الله عليه وسلم؟ نقول: إن معاذ بن جبل ذهب إلى الشام ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المدينة، فأول ما رأى النبي صلى الله عليه وسلم سجد على الأرض قدام النبي صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: (ما هذا يا معاذ؟ فقال: يا رسول الله! وجدتهم يفعلون ذلك لكبرائهم وأنت أولى، فقال الن

طور بواسطة نورين ميديا © 2015