نذكر في التوبة بعض هذه الأحاديث كي نعرف توبة الله وكرم الله سبحانه وتعالى على عباده، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئَاتِ} [الشورى:25]، وقال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53]، فالله عظيم سبحانه وتعالى يغفر الذنوب جميعاً، وعندما تسمع قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} [النساء:48]، تجد كرم الله سبحانه في كونك مسلماً ولست مشركاً، فترجو من الله أن يغفر الذنوب سبحانه وتعالى، فكل من يقول ذلك لا يقع في الشرك ولا يدعو إلا الله، ولا يتوسل إلا بالله، ولا يطلب من غير الله ما لا يجوز أن يطلب إلا من الله سبحانه وتعالى.
فالدعاء والاستغاثة والاستعانة كلها عبادات، فتلجأ إلى الله عز وجل، وتقول: لا إله إلا الله بشروطها: علم، ويقين، وقبول، وانقياد، وصدق، وإخلاص، ومحبة، وولاء، وبراء، فإذا أتيت بحقها وعرفت معناها، وأيقنت بذلك فإنك مسلم، وإذا وقعت في الذنوب يتوب الله عليك إذا تبت إليه.
ومن الأحاديث: ما جاء عنه صلوات الله وسلامه عليه أنه قال: (ما من عبد يذنب ذنباً فيحسن الطهور، ثم يقوم فيصلي ركعتين ثم يستغفر الله إلا غفر الله له، ثم قرأ هذه الآية: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:135])، فليس هناك أحد يغفر الذنوب إلا الله، قال تعالى: {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:135]، بشرط {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135]، فلابد أن تتوب إلى الله ولا تصر على فعلك، وإذا كانت المعصية تتعلق بحق إنسان، وقيل لك: اذهب استسمح من فلان إذا أردت التوبة، فلم تذهب بل أبيت، فأنت مصر على ما أنت عليه من المعصية، وقد تظلم إنساناً وتقول: لأنه سيئ الأخلاق، فلابد أن تعطيه حقه حتى وإن كان سيء الأخلاق.
ومن الناس من تجده كثير العناد فيقع في الكفر؛ لأنه يعبر بتعبيرات يخسر بسببها عند الله عز وجل.
والذي يريد أن يتوب إلى الله لابد أن يرد المظالم إلى أصحابها، ويستسمح ممن وقع في حقهم، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يقتل المؤمن متعمداً، أو الرجل يموت كافراً).
وروى الإمام أحمد من حديث جابر بن عبد الله قال: بلغني حديث عن رجل سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاشتريت بعيراً ثم شددت عليه رحلي، فسرت إليه شهراً حتى قدمت عليه الشام، فإذا عبد الله بن أنيس، -وهذا يدل على اهتمامهم بطلب العلم- إذ إن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما سمع حديثاً، وهذا الحديث لم يسمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن سمعه ممن كان معه، فأحب أن يكون إسناد الحديث عالياً، أي: أقصر سلسلة توصل إلى راوي الحديث، فأراد جابر بن عبد الله أن يسمعه ممن سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة، فقام يشد رحله إلى الشام شهراً كاملاً، يركب جملاً ويسافر من المدينة إلى الشام لسماع حديث واحد.
قال: ثم شددت عليه رحلي، فسرت إلى الشام شهراً حتى قدمت عليه، فإذا عبد الله بن أنيس -وهو صحابي من الصحابة الأفاضل رضي الله تبارك وتعالى عنه- قال: فقلت للبواب: قل له: جابر، قال: جابر بن عبد الله؟ قلت: نعم.
فخرج يطأ ثوبه فاعتنقني واعتنقته، فقد تعجب عبد الله بن أنيس من حاله، فقد أتاه من المدينة قائلاً له: حديث بلغني عنك أنك سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم في القصاص، أي: في قصاص الآخرة، قال: فخشيت أن تموت أو أموت قبل أن أسمعك، قال عبد الله بن أنيس: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يحشر الناس -أو قال: العباد- يوم القيامة عراة غرلاً بهماً)، قوله: (عراة)، أي: كما خلقهم الله عز وجل، (غرلاً)، أي: غير مختونين كما نزلوا من بطون أمهاتهم، قال: (قلنا: وما بهماً؟ قال: ليس معهم شيء)، أي: فقراء ليس لديهم دراهم ولا مال، قال: (ثم يناديهم -أي: ربهم سبحانه وتعالى- بصوت يسمعه من قرب)، يعني: الجميع يسمعونه؛ لأن الصوت قريب منهم، قال: (بصوت يسمعه من قرب: أنا الملك الديان)، والديان: الذي يدين العباد سبحانه وتعالى، والدين بمعنى: الجزاء، أي: الذي يجازي العباد، ولا أحد يجازيهم غيره (أنا الملك الديان، ولا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وله عند أحد من أهل الجنة حق حتى أقصه منه، ولا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة ولأحد من أهل النار عنده حق حتى أقصه منه).
فهذا من أهل الجنة ذاهب إلى الجنة وقد جاوز الصراط، وحسناته غلبت سيئاته، ولكنه عمل عملاً أوقفه عن دخول الجنة، كأن يكون ظلم شخصاً حتى إن كان من أهل النار، قال: (ولا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة ولأحد من أهل النار عنده حق حتى أقصه منه حتى اللطمة)، أي: ضرب إنسان بيده ظلماً، وقد كان أهل الجاهلية عداة ظالمين بغاة، فقد كانوا يفتخرون بأنفسهم أنهم طغاة، هذا منطق أهل الجاهلية، فلما جاء الإسلام منع الظلم ورد المظالم إلى أهلها، فالمسلم إذا تطاول على خلق الله يأتي به الله يوم القيامة فيأخذ من حسناته ويعطيها لمن ظلم، وهذا هو المفلس يوم القيامة، يأتي بحسنات أمثال الجبال، ولكنه ظلم الخلق كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: (أكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، ولطم هذا، وقذف هذا، فيأخذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإذا فنيت حسناته أخذ من سيئاته فطرحت عليه فطرح في النار).
هنا يقول الله عز وجل: (حتى أقصه منه، حتى اللطمة، قلنا: كيف وإنما نأتي الله عز وجل عراة غرلاً بهماً؟ قال: بالحسنات والسيئات)، هذا المفلس هو المسكين يوم القيامة؛ لأنه وجد نفسه سيدخل الجنة، لكنه ظلم خلقاً كثيرين، فتؤخذ من حسناته لهذا ولهذا ولهذا، حتى تفنى حسناته كلها، فإن بقي عليه مظالم أخذ من سيئاتهم إلى سيئاته فيقذف في النار، فإياك إياك والظلم، واحذر من العناد والكبر، فهي معصية إبليس، فإياك أن تقتدي بإبليس، فقد قال لله عز وجل عنه أنه قال: {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا} [الإسراء:61]، ما دمت قد خلقته من طين فأنا أحسن منه خلقتني من نار، فلماذا أسجد له؟ وهكذا تكبر إبليس، فكانت أول معصية يعصى بها الخالق سبحانه أن يستكبر إبليس عن الطاعة، فاحذر أن تقلده حتى لا تكون معه في النار.
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.