قال الله سبحانه: ((لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ)) يعني: قد ظهر الحق، فلا مخاصمة بيننا وبينكم، وليس هناك وقت للخصام والجدال، فقد ظهر الدين وبان، والله عز وجل نشر نوره، وكانوا قد قرروا أن يحتجوا على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى الصحابة، فكان اليهود والنصارى يقولون: ديننا قبل دينكم، وكتابنا قبل كتابكم، ونحن آمنا قبل أن تأتوا أنتم، فيقال لهم: إن الله عز وجل قد نبأ وبشر في كتبكم بالنبي صلوات الله وسلامه عليه، وأمرتم أن تتبعوه، وشهد الله عز وجل عليكم بذلك، فلا حجة بيننا وبينكم، أنتم آمنتم بكتبكم ولم تؤمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم، ونحن آمنا بكل الكتب التي نزلت من عند الله عز وجل، وأمرنا بالعدل مع الخلق وأن نقيم هذا الدين القيم وأن نعمل به، فكل الكتب قبل النبي صلى الله عليه وسلم كتب حقٌ نزلت من عند الله عز وجل، ولكن أصحابها حرفوا وبدلوا ما فيها من حق، كما أخبر الله سبحانه وتعالى، فجاء هذا القرآن العظيم مهيمناً عليه وناسخاً لما فيه، وأمرنا الله عز وجل أن نتبع هذا الدين، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يحكم به، فقال له سبحانه وتعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة:49].
فقوله تعالى: ((لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ)) أي: لا وجه للخصومة بيننا وبينكم، قد تبين الرشد من الغي، وقد ظهر الحق، ولذلك كان اليهود يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم حين يجيب على أسئلتهم: أنت نبي، فإذا قال لهم: ما يمنعكم أن تتبعوني؟ يجيبون بأجوبة شتى، البعض منهم يقولون: نخشى أن تقتلنا اليهود، والبعض الآخر يقولون: إن داود دعا أنه لا يزال في ذريته نبي فنحن ننتظر نبياً من ذريته، والبعض الآخر يقولون: أنت نبي إلى الأميين فقط، يقرون له بأنه نبي صلى الله عليه وسلم، وإذا أقروا بذلك قد أقروا له بالعصمة صلوات الله وسلامه عليه، ومع ذلك لا يتبعونه فيظهر منهم الباطل فيما يقولون.
فهؤلاء يشهدون أنه نبي يوحى إليه من عند الله، ومع ذلك لا يتبعونه! والنصارى يذهبون إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقولون: نحن على دين مثلما أنت على دين.
وممن ذهب إليه عدي بن حاتم، فقد كان عدي بن حاتم رجلاً نصرانياً، وذهب للنبي صلى الله عليه وسلم وقد علق الصليب، فلما جلس مع النبي صلى الله عليه وسلم دعاه النبي صلى الله عليه وسلم للإسلام، فقال: أنا على دين، مثلما أنت على دين، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا أعلم بدينك منك، ألست من الركوسية؟ ألست تأكل مرباع قومك وهذا لا يحل لك في دينك) أي: أنت على دين اسمه الركوسية، وفي دينك أنت لا يحل لك أن تأكل مرباع قومك، فقد كان يأخذ الربع من قومه وليس العشر، فقام الرجل تواضعاً للنبي صلى الله عليه وسلم، وعرف أنه كاشف أمره فبدأ يتراجع عما هو فيه.
فالنبي صلى الله عليه وسلم دعاه إلى دين الله سبحانه وتعالى، وفي النهاية قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إن اليهود مغضوب عليهم، وإن النصارى ضلال، فقال عدي: فإني مسلم)، فدخل في دين الله عز وجل.
وجاءت وفود النصارى إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولما دعاهم إلى الله رفضوا أن يدخلوا في دين الله عز وجل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران:61]، وتهيأ لهم النبي صلى الله عليه وسلم، وأخذ السيدة فاطمة، وعلي بن أبي طالب، والحسن والحسين وخرج لهم وقال: (تعالوا نتباهل).
نذهب إلى الصحراء وندعو على الكذاب أن تنزل عليه لعنة الله عز وجل، فخافوا من ذلك وقالوا: نعطيك ما تريد، ماذا تريد؟ خذ منا الجزية، ولا نتباهل معك، وعرفوا أنه على الحق صلوات الله وسلامه عليه.
فلذلك قال الله عز وجل: ((لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ)) أي: ليس عندكم شيء من الصواب الذي تقولون أنكم عليه، ولا وقت للجدال بيننا وبينكم، وقد تبين الرشد من الغي.