وكانت حكمة الله أن يموت أبوه وأمه حبلى به عليه الصلاة والسلام؛ حتى لا يقال: إن أباه هو الذي رباه وشجعه وعلمه، وإن أباه هو الذي فعل وفعل، فربته أمه صلى الله عليه وسلم سنيناً، ثم لما ماتت أمه كفله جده عبد المطلب بعد ذلك، فكان وحيداً يتيماً صلوات الله وسلامه عليه، ولكن كان ربه هو الذي يحميه ويعصمه سبحانه وتعالى، ويعده على أكمل ما يكون من الأدب والخلق صلوات الله وسلامه عليه.
فكان ينظر إلى أصنامهم هذه أنها لا تستحق أن تعبد، وكان أصدق الخلق وأأمن الخلق عليه الصلاة والسلام، وكان أحب الخلق للخلق عليه الصلاة والسلام، حتى إن الكفار كانوا يلقبونه بالصادق الأمين صلوات الله وسلامه عليه، وكان لا يذهب إلى مكان إلا وأحبه أهل هذا المكان صلوات الله وسلامه عليه، وفي يوم من الأيام وهو صبي صغير صلوات الله وسلامه عليه كانوا يحملون الحجارة، فكان يحملها معهم على منكبه صلى الله عليه وسلم، فيقول له عمه أبو طالب: يا ابن أخي! ضع ثوبك على كتفك، يشفق عليه، أي: بدلاً من أن تلبس ثوبك إزاراً ضعه على كتفك، وضع الحجر عليه، حتى لا يؤذي الحجر كتفك، وقد كان لابساً لإزاره صلى الله عليه وسلم، وهو طفل صغير، وكان عند المشركين أن الكبير إذا تعرى فلا شيء في ذلك عندهم، فإذا به يخلع إزاره صلى الله عليه وسلم، ولم يكد أن يفعل حتى غشي عليه صلوات الله وسلامه عليه، وإذا بالملك يقول له: خذ عليك إزارك.
صلوات الله وسلامه عليه.
فكان ربه يربيه وهو صبي صغير على ألا يتكشف، فلما كبر عليه الصلاة والسلام كان إذا أراد أن يبول جلس وبال، وكان من عادتهم أن يبولوا قائمين، فلما كان هو يجلس كانوا يتعجبون منه ويقولون: انظروا إليه، يبول كما تبول المرأة، لأنه كان يستتر صلوات الله وسلامه عليه.
وقد جاء الدين بذلك فكان هذا من سننه صلى الله عليه وسلم، فكان إذا أراد البول جلس ولم يقف؛ حتى لا يترشش عليه بوله، فيبول جالساً، فهذا مما علمه ربه سبحانه وتعالى وأدبه عليه.
ثم نزل عليه القرآن فكمله بذلك سبحانه وتعالى، وقد سئلت السيدة عائشة عن خلق النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقالت للسائل: (أما تقرأ القرآن؟ قال: بلى، ولكن أسأل عن خلق النبي صلى الله عليه وسلم.
قالت: كان خلقه القرآن)، فكان كل ما في القرآن يطبقه صلوات الله وسلامه عليه، فكان خلقه القرآن صلوات الله وسلامه عليه.
وهو لم يجهز نفسه لأن يكون رسولاً يوماً من الأيام، وإنما ربنا سبحانه هو الذي جهزه وهو الذي أعده وهو الذي امتحنه لذلك، صلوات الله وسلامه عليه، قال تعالى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا} [الضحى:6]، أي: لا أب ولا أم، وإنما كفله جده، ثم مات جده فكفله عمه أبو طالب بعد ذلك، فكان وحيداً عليه الصلاة والسلام، ثم فتح الله عز وجل عليه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (بدأ الإسلام غريباً -أي: برجل واحد وهو هو عليه الصلاة والسلام- وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء)، فالذي علمه هو ربه وقال له: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى} [الضحى:6 - 8]، أي: عندك عيال وتحتاج إلى المال، وكنت فقيراً، فهو لم يرث شيئاً من أهله عليه الصلاة والسلام، وكان أهله أصحاب شرف، وكان له هو أيضاً شرف صلى الله عليه وسلم، وله قدر، وأما المال فلم يكن لديه مال، فقال له ربه: {وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى} [الضحى:8]، أي: أن الله سبحانه وجدك صاحب عيال فأغناك، فقد أغنى قلبك فكنت غنياً بالرضا والقناعة، وأغناك فأعطاك مالاً، فعمل بالتجارة فكان له مال صلوات الله وسلامه عليه، وعمل عند إحدى شريفات البلد، وهي السيدة خديجة رضي الله عنها، ثم اختارها لتكون زوجة له بعد ذلك، فكانت سيدة نساء العالمين، وسيدة نساء أهل الجنة رضي الله عنها.
فهذه التربية من الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم، فهو يقول له: إن ربك وجدك يتيماً فآواك، فكن كذلك مع الأيتام، فآوهم وتحنن عليهم، وربت على ظهورهم، وأعطهم من المال، وبش لهم، ولا تجعلهم في بؤس وضيق، وكن لهم بمثابة الوالد صلوات الله وسلامه عليه، فعلمه من صغره، فما عانيت منه فأعن غيرك عليه إذا كان موجوداً فيه، فكان أرحم الخلق بالخلق صلوات الله وسلامه عليه.
وقال تعالى: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضحى:7]، أي: كما هداك الله -والمنة له وحده- فاهدِ الناس ودلهم على دين الله سبحانه وتعالى.
وقال تعالى: {وَوَجَدَكَ عَائِلًا} [الضحى:8]، أي: إنك قد ذقت الفقر ثم أغناك الله سبحانه وتعالى، فإذا آتاك الله مالاً فأنفق ولا تخف من ذي العرش إقلالاً.
فكان ينفق النفقات العظيمة، حتى إن الرجل ليأتي إليه صلى الله عليه وسلم ويقول: (يا محمد! يا رسول الله! أعطني.
فيقول: انظر ما بين الجبلين، فيجد أغناماً، فيقول: خذها فهي لك)، فيذهب الرجل فرحاً يأخذ كل ما بين الجبلين، وينطلق بها إلى قومه من المشركين ويقول: يا قوم! أسلموا فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفقر.
صلوات الله وسلامه عليه، وكان إذا فتح الله عز وجل عليه وقسم الغنائم على الناس كان له خمس الغنيمة، وله خمس الفيء، فكان يأخذ منها نفقة بيته صلوات الله وسلامه عليه، ثم ينفق الباقي على المسلمين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.