الله سبحانه تبارك وتعالى يختار الحروف لحكمة منه سبحانه وتعالى، والعلماء يقولون: الذي نفهم من هذه الحروف أن الله يتحدى العباد بهذه الحروف، وكأنه يقول: القرآن من جنس ما تتكلمون وتنطقون به من حروفكم، ولكن لماذا اختار هذا الحرف هنا؟ واختار هذا الحرف هنا؟ هذا لحكمة من الله سبحانه وتعالى، ولا مانع أن يدلي العلماء بدلوهم في ذلك، ولكن لا نقول: هذه هي الحكمة الوحيدة التي من أجلها ذكر الله عز وجل ذلك، فإن هذا مرجعه إلى الله سبحانه وتعالى.
ينقل الحافظ ابن كثير عن الزمخشري وغيره كلاماً في هذه الحروف، يقول: هي حروف من حروف المعجم استغني بذكر ما ذكر منها في أوائل السور عن ذكر بواقيها.
وحروف اللغة العربية بعضهم يعدها: أبجد هوز حطي كلمن إلى آخره، ونحن نقرؤها: ألف، باء، تاء، ثاء، جيم، حاء، خاء هذا ترتيبنا، وهم يرتبونها بأبجد هوز.
والحروف ثمانية وعشرون حرفاً، إذا لم نعد اللام والألف (لا) لأنهما حرفان: اللام والألف، فالحروف ثمانية وعشرون حرفاً، والسور التي هي مبدوءة بالحروف المقطعة ثمانية وعشرون سورة، وستجد هذه الحروف على النصف من عدد الحروف، وعندما نقول: ثمانية وعشرون سورة مبدوءة بحروف مقطعة، وإذا جمعنا هذه الحروف وحذفنا منها المكرر، فسنجد السورة بدأت بحرف واحد، مثل: حرف: نون، قاف، صاد، وقد تبدأ السورة بحرفين مثل: (حم)، وقد تبدأ بثلاثة مثل: (الم)، وقد تبدأ بأربعة مثل: (المص)، وقد تبدأ بخمسة مثل: (حم عسق) أو (كهيعص).
إذاً: الحروف المقطعة قد تكون حرفاً واحداً، وقد تكون حرفين، أو ثلاثة أحرف، أو أربعة أحرف، أو خمسة، وكأنه يقول: كلماتكم تتكون من حرف، وحرفين، ومن ثلاثة أحرف، ومن أربعة أحرف، ومن خمسة أحرف.
وعندما نجمع هذه الأحرف ثم نحذف منها الزيادة، نجد أنها أربعة عشر حرفاً من غير المكرر منها.
إذاً: هذه السور ثمانية وعشرون سورة، والحروف التي في أوائلها من غير تكرار أربعة عشر حرفاً، وقد جمعوا الأربعة عشر حرفاً في جملة (نص حكيم قاطع له سر)، فهذه الحروف من أسرار القرآن، والغالب أن الحروف التي بدأها الله عز وجل في السور إذا عددت هذه الحروف في نفس السورة وقورنت بباقي الحروف كانت أكثرها أو من أكثرها في العدد في السورة التي تذكر فيها.
يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله: هذه الحروف نصف الحروف عدداً، أي: نصف حروف المعجم، والمذكور منها أشرف من المتروك، أي: أهل العربية يقسمون الحروف إلى أقسام منها: حروف مهموسة، وحروف مجهورة، وحروف رخوة، وحروف شديدة، وحروف مطبقة، وحروف مفتوحة، وحروف مستعلية، وحروف منخفضة، وحروف قلقلة، وأشرف هذه الحروف ما ذكر في أوائل هذه السور.
هذا الكلام ذكره الحافظ ابن كثير وكذلك ذكره الباقلاني في كتاب إعجاز القرآن، فذكر فيه أن القرآن بديع في نظمه، عجيب في تأليفه، متناه في بلاغته، إلى الحد الذي يعلم عجز الخلق عنه، وذكر الذي يشتمل عليه من البديع في كتاب كامل يتجاوز الثلاثمائة صفحة، وهو كتاب عظيم جداً، فيه نوع من أنواع الإعجاز، وهو الإعجاز اللغوي، يتكلم عن إعجاز اللغة بما يفهمه فصحاء الناس وليس جهال الناس، وقد أجاد وأبدع في كتابه، ونقل عن غيره كـ الرماني والجاحظ في فصاحة هذا القرآن وبلاغته.
ومن ضمن ما ذكره أنه أتى بأبيات من شعر فحول العرب، من أصحاب المعلقات وغيرهم، وقال: إن البعض منهم يجيد الشعر في نوع ولا يجيده في غيره، فيجيده في الغزل ولا يجيده مثلاً في الحرب وفي القتال، أما القرآن فيتكلم في كل شيء، وهو فصيح بأعلى الدرجات في كل شيء.
وذكر كلاماً كثيراًَ في ذلك، وذكر فواتح السور نحو: (الم)، و (حم) ونحو ذلك، فذكر عدد حروف المعجم، وقال: إن عدد السور المفتتحة بهذه الفواتح في أولها ثمانية وعشرون سورة، قال: والذي تنقسم إليه هذه الحروف على ما قسمه أهل العربية، وبنوا عليه وجوهاً نحن ذاكروها، فمن ذلك أنهم قسموها إلى: مهموسة، ومجهورة، والحرف المهموس حرف ليس معتمداً في مكانه، فعندما يخرج من الفم يخرج معه النفس، ويجمعها قولهم: (فحثه شخص سكت) الفاء والحاء والثاء والهاء والشين والخاء والصاد والسين والكاف والتاء، تسمى هذه: حروف الهمس، وغيرها حروف مجهورة، أي: يخرج الحرف ولا يخرج معه نفس.
هذه الحروف التي ذكر العلماء أنها تنقسم في اللغة إلى هذه وهذه، جاء القرآن فأخذ من هذه الحروف أعلاها، وبدأ بها في فواتح السور.
قال: عرفنا أن نصف الحروف المهموسة مذكورة في جملة الحروف المذكورة في أوائل السور، والحروف المهموسة هي: (فحثه شخص سكت)، فأخذ منها الحاء والهاء والصاد والسين والكاف، فكان نصف الحروف المهموسة في فواتح السور، ونصف الحروف المجهورة في أوائل السور، والحروف المهموسة عشرة أحرف، فذكر الله عز وجل في كتابه النصف منها -أي: خمسة أحرف- والأحرف المذكورة في أوائل السور أربعة عشر حرفاً، فنصف المهموس هذه الخمسة، والباقي من الأربعة عشر: تسعة أحرف، إذاً مجموع الحروف المجهورة: ثمانية عشر حرفاً، ونصف الثمانية عشر في فواتح السور، أي: نصف المجهور ونصف المهموس.
وهذا شيء عجيب لمن يتفكر فيه! فهذه الحروف نصف المهموسة ونصف المجهورة!! أخذ الله عز وجل نصف المجهورة ونصف المهموسة فجعلها في فواتح السور، وقلنا: إن عدد السور ثمانية وعشرون بعدد الحروف الأبجدية، وعدد الحروف المقطعة من دون التكرار أربعة عشر حرفاً، على نصف عدد السور، وعلى نصف عدد الحروف، وهذه الحروف المذكورة في أوائل السور تتصف بوصفين: نصف مهموس، ونصف مجهور، فنصف الحروف المهموسة مذكورة في أول بعض هذه السور، ونصف الحروف المجهورة مذكورة في أول بعض هذه السور! وهذا شيء خاص باللغة العربية، ليس للرياضيات ولا الحساب ولا الإحصاء شأن في ذلك.
وليس هذا فقط في المهموس والمجهور، بل هناك حروف حلقية، وهي ستة: الهمزة، والهاء، والعين، والغين، والخاء، والحاء، وباقي الحروف من غير هذا المخرج، فنصف الحروف الحلقية في فواتح السور! كأنه يقول: إن عدد الحروف المعجمة ثمانية وعشرون حرفاً، سنذكر نصفها؛ لندل على الباقي، ولن نذكر لك كل الحروف، وأنت اعرف الباقي.
فنذكر لك نصف المهموس والنصف الآخر من المجهور في فواتح السور.
كذلك الحروف تنقسم إلى: شديدة، وغير شديدة، والحروف الشديدة هي: (أجد قط بكت): الألف، والجيم، والدال، والقاف، والطاء، والباء، والكاف، والتاء، ثمانية أحرف، فنصفها في بعض السور والنصف الآخر في باقي هذه السور! وكأن أنواع الحروف التي تنطق بها القرآن يذكر من كل نوع نصفه ويضعه في أول كل سورة من هذه السور، ويقول لك: سنحضر لك من كل الحروف أشرفها ونضعها، ونأتي بهذا القرآن من مثلها، وحاول أنت أن تأتي بمثل ذلك، ولن تستطيع إلى ذلك سبيلاً.