قال الله تعالى مخاطباً الكفار الذين يجحدون نعم الله سبحانه، والذين يكذبون رسل الله عليهم الصلاة والسلام: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46] العمى نوعان: عمى البصر وعمى القلب، فإن ذهبت العينان فهذا العمى، وإن ذهبت عين واحدة فهذا أعور وليس أعمى، فهنا ربنا سبحانه وتعالى يقول لنا: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46]، وفي سورة الإسراء يقول لنا: {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا} [الإسراء:72]، يعني من كان أعمى في هذه الدنيا، والمراد عمى القلب، قيل: ذهب عبد الله بن أم مكتوم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أنا أعمى، فهل يوم القيامة أكون أعمى؟ فنزلت هذه الآية: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46]، فالمقصود عمى الصدور، {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى} [الإسراء:72] أي: أشد عمى، فأعمى أفعل تفضيل، ولا يأتي ذلك في العين، لا يقال: فلان أعمى من فلان؛ لأن هذا أعمى وهذا أعمى، هذا ذاهب البصر وهذا ذاهب البصر، وإنما عمى القلوب يأتي فيه أعمى الذي هو أفعل تفضيل، فهذا أشد عمى من ذلك، هذا في ضلال وذاك في ضلال أشد من ضلال الأول، وذاك أشد ضلالاً من هذا وذاك، فلذلك من كان أعمى في الدنيا فهو في الآخرة أعمى أي: أشد عمى، فالعمى الذي فيه التفاضل ليس هو عمى الأبصار، فعمى الأبصار يستوي، وإنما هو عمى القلوب.
وقوله: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} [الحج:46] هل الإنسان يعقل بالقلب أو يعقل بالمخ الذي في رأسه؟ أكثر الناس يقولون: إن المخ هو الذي يعقل، والمخ هو الذي يفكر، والمخ هو الذي يشعر، والمخ هو الذي فيه الأحاسيس وفيه الحب وفيه العاطفة، لكن الله يقول: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46] ولا يمكن أن تكون مجازاً أبداً، لأنه قال: (القلوب التي في الصدور)، وهذه حقيقة عجيبة جداً، قال علماء التفسير وعلماء الحديث: القلب هو الذي يعقل؛ لأن الله عز وجل قال ذلك، وعلماء الطب يقولون: لا، القلب لا يعقل، والعقل في المخ.
والشيخ الزنداني يذكر في هذه المسألة كلاماً عجيباً فيقول: إنه بقي مدة يتتبع مسألة العمى الذي في القلب، ويحاول ينظر في مراكز زراعة القلوب الموجودة في العالم، ويريد أن يسأل الناس الذين زرعت لهم قلوب: ما هو شعورهم؟ وما هي أحاسيسهم؟ وكيف عيشهم؟ وكان الأمر أنه كلما يذهب إلى مستشفى من هذه المستشفيات يرفض الأطباء أن يجعلوه يتصل بالمرضى، ويمنعون أي إنسان يدخل على المرضى، وذكر أنه قابل أستاذاً في الطب في جامعة الملك عبد العزيز، وذكر له أنه نشر خبراً في جريدة منذ ثلاث سنوات ونصف أنهم اكتشفوا بأن القلب ليس مضخة للدماء فقط بل هو مركز عقل وتعقل.
ومرت الأيام وإذا بمركز لتبديل القلوب يفتح بالأردن، فذهب إلى هنالك وعقد مؤتمر صحفي مع أهالي المريض الذي زرعوا له القلب، فقالوا: لو أنكم معنا في البيوت تشاهدون سلوك هذا الذي زرع له القلب ما غبطتمونا على هذا، وذكر بعض الأطباء المتخصصين في هذا الأمر أن صاحب القلب الجديد لا تكون فيه أي عواطف ولا انفعالات، ولا ينفعل بالظروف التي حوله، لا يخاف ولا يحب! وإذا قرب إليه خطراً بدا وكأنه لا شيء يتهدده، ولا يحس بهذا الخطر، ولا يخاف منه ولا يفزعه، بينما القلب الحقيقي يتأثر، وفيه وجدان، وفيه شعور, وفيه خوف، وفيه حب، قال: وإذا قربت منه شيئاً يحبه بدا وكأنك لم تقدم إليه شيئاً، فلا يوجد عنده أي شعور بالمحبة التي كانت موجودة فيه، فيكون كأنه صنم، قلبه بارد غير متفاعل مع سائر الجسد! واكتشفوا أن قلب الإنسان فيه هرمونات عاقلة، ترسل رسائل عاقلة إلى الجسم كله، وأن القلب مركز عقل وتعقل وليس مجرد مضخة، وهذا اكتشفوه قبل ثلاث سنين فقط، وهو في القرآن منذ ألف وأربعمائة سنة! فهذا من الإعجاز العلمي في هذا القرآن العظيم، فهذه حقيقة علمية مذكورة منذ ألف وأربعمائة سنة، ولا يعرفها الناس إلا قبل ثلاث سنين ونصف! يقول سبحانه تبارك وتعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} [الحج:46]، قلب يعقل ما حوله، ويعرف أن هذا الكون لابد أن له خالقاً سبحانه تبارك وتعالى، وأنه قادر مدبر حكيم، يفعل ما يشاء ويحكم بما يريد سبحانه.
{أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} [الحج:46] يسمعون بها كلام رب العالمين، ويطبقونه في هذا الواقع الذي يعيشون فيه، فيعرفون الحق.
{فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ} [الحج:46] لا تعمى الأبصار، فإذا ذهب بصر الإنسان فقلبه يكفيه في الاستدلال على الخير والهدى والرشاد، ولكن الذي يعمى هي القلوب، ((ولكن تعمى القلوب التي في الصدور))، يعميها الله سبحانه تبارك وتعالى، فإذا بالإنسان لا يتدبر ولا يعي ولا يفهم شيئاً مما حوله ولا يعتبر.