هذه السورة كما ذكرنا سورة مكية، والله سبحانه وتعالى ذكر في أولها: ((حم)) وهما حرفان: الحاء والميم، والمقصد بذلك تحدي الكفار، أي: أن هذا القرآن من جنس هذه الأحرف التي تقرءونها، فهاتوا مثله، وعندما يتحداهم الله سبحانه فيقول: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء:88]، {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} [هود:13]، {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة:23]، فيتحداهم أن يأتوا بسورة مثله، فليس المعنى أن أي كلام يقوله الإنسان يعتبر سورة، مثل ذلك المخرف المجرم الذي اسمه شروش الذي يقول: أنا سأؤلف قرآناً، وأمريكا تؤيده على هذا الأمر وتطبع له، وهذا الذي يؤلفه كلام فارغ غاية في الركة في اللغة العربية، فهو كلام ركيك فارغ، كلام كفر، يريد أن يوزن كلاماً على ما يأتي في سور القرآن، ويأخذ منها حاجات ويحط مكانها الصليب، ويحط مكانها المسيح، وعقيدة التثليث، وغير ذلك من الكذب والافتراء، ويقول: هذا الذي جئت به ألفته في خلال سبع سنوات، ومحمد -صلى الله عليه وسلم- ألفه في ثلاث وعشرين سنة! فليس أي كلام يقوله الإنسان يقال: هذا قرآن، فلا يأتي تلميذ أو طالب فاشل يكتب موضوعاً ويأتي الناس يقارنون هذا الكلام الفارغ بكتاب الله العظيم الكريم، ولكن الذي يتحدى أن يأتي بمثل هذا القرآن عليه أن يأتي بكلام له معنى، وبكلام يفهم منه شريعة وعقيدة، وأن يقول كلاماً موزوناً وكلاماً فيه الرصانة والبلاغة والفصاحة والإعجاز، وفيه منهج الحياة، وفيه أمور الدنيا وأمور الآخرة، فعندما يأتي إنسان بكلام فارغ وكلام لا يعرف له أول من آخر، فليس بقرآن، وذلك مثل كلام مسيلمة عندما تكلم عن دابة من الدواب فقال: (يا وبر يا وبر، إنك رأس وصدر، وسائرك حقر نقر)، وهذا كلام فارغ يصف به دابة اسمها: الوبر، ويقول: هذا قرآن، وقد رد عليه من كان في زمانه وقال: والله إنك لتعلم أني أعلم أنك كذاب.
فعلى ذلك نقول: الله عز وجل يتحدى الخلق بهذا القرآن، ويتحداهم أن يأتوا بمثل هذا القرآن الذي لا تنقضي عجائبه، فتقرأ القرآن، وكلما ازددت قراءة للقرآن تجد كلاماً عظيماً، وتجد كمالاً وبلاغة وأسلوباً فائقاً رائقاً عظيماً، ولو أتيت بكلام من أي كلام يكون حتى ولو كان حديثاً للنبي صلى الله عليه وسلم لا تجد فيه التغني الذي تقرأ به القرآن والنغمة الموجودة في قراءتك للقرآن، فالقرآن غير كلام البشر، فهو كلام رب العالمين سبحانه وتعالى، وحين تقرأ القرآن تتغنى به، وتجد روعة أسلوب القرآن، من حيث ترتيب حروف القرآن، فهذا حرف يخرج من آخر الحلق، وهذا من أول الحلق، وهذا من عند اللسان، وهذا من عند الشفة، ويصير للكلمة نغمة.
ولذلك العلماء الذين يفهمون في اللغة العربية يقولون: إذا أتينا بأقصر آية في القرآن فيها حكمة، وأقصر كلمة قالتها العرب فيها حكمة، وقارنا بين هذه وبين هذه فسيكون كلام العرب لا شيء أمام القرآن، فمثلاً: من الكلمات التي قالها العرب: القتل أنفى للقتل، قالوا: وهذا من أبلغ الكلام الذي قالته العرب، أي: أن القاتل عندما يقتل يمنع القتل بعد ذلك، لكن أين تقع هذه الكلمة التي قالوها بجانب قول الله عز وجل: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة:179]؟ فمخارج حروف الآية فيها سهولة، بخلاف كلمة (أنفى للقتل) ففي مخارجها صعوبة، وحروفها بعيدة عن بعضها، وليس فيها النغمة الموجودة في القرآن، وهكذا قول الله عز وجل: ((فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ)) أقصر من قولهم: القتل أنفى للقتل، وحين تقرأ كتاب إعجاز القرآن للباقلاني تجد فيه العجب من هذا الجنس، وهذا فن واحد من الفنون في الكلام عن بلاغة القرآن.
فهناك فرق بين القرآن وبين أشعار العرب التي هي تعتبر أشياء عظيمة وقوية في اللغة العربية، فأين هذا مع تخريف شروش الجاهل المجرم الكافر النصراني الذي يقول: أنا آتي بمثل هذا القرآن؟! فلذلك محله مزبلة الناس يلقي فيها كلامه الذي يقوله، أما كلام رب العالمين فهو الذي يتحد الخلق أن يأتوا بسورة من مثله في مثل إتقانه وإحكامه وبلاغته وقوته، وما فيه من مذهب للحياة، وما فيه من إخبار بالغيب، وما فيه من إعجاز في كل الوجوه كما رأينا ونرى في سور هذا القرآن العظيم.
فبدأ الله عز وجل هذه السورة بقوله: {حم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [غافر:1 - 2] فقوله: (حم) حرفان، ويشير بعدها إلى القرآن، وقد ذكرنا أن الغالب في الحروف التي في أوائل السور أنها إذا ذكرها الله عز وجل يعقب بعدها بذكر القرآن أو يشير إلى القرآن سواء بعدها مباشرة أو بعدها بآيات.
والله سبحانه وتعالى قال في هذه الآية: {تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [غافر:2]، فذكر اسمين من أسمائه: (العزيز) أي: الغالب سبحانه، (العليم) بما يقولون وما يفعلون، وهو الذي يحاسبهم سبحانه ويفصل القضاء بينهم وبين المؤمنين يوم القيامة، فكأنه يعرض لهم: أقلعوا عما أنتم فيه، وإلا فالله غالب على أمره، فالله يعلم ما تقولون وما تفعلون فيجازيكم عليه.
وكذلك يعقب بقوله: ((تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ)) أي: أن الكتاب ليس هو من عند النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هو من عند الله، ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: أنا ألفت هذا القرآن، فليس هو كلام النبي صلى الله عليه وسلم، إنما هو كلام رب العالمين، والفرق واسع جداً بين القرآن العظيم وبين حديث النبي صلى الله عليه وسلم الشريف وبين كلام البشر.
أيضاً: في هذه السورة يذكر الله سبحانه اشتغال الكفار بالجدل في دين الله سبحانه وتعالى، وقد تكررت كلمة الجدل والمجادلين في هذه السورة حوالي خمس مرات.
وكذلك ذكر الله الأمم السابقة وما فعلت مع أنبيائها وخاصة فرعون مع موسى، وبني إسرائيل مع موسى، ذكر الله سبحانه ذلك حتى يطمئن النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مكة وهو يؤذى والمؤمنون يؤذون أننا سننصركم كما نصرنا هؤلاء، ووعد الله: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر:51].
وفيها أيضاً التنبيه على تفرد الله عز وجل بالعبادة، وإبطال عبادة ما يعبده المشركون من دون الله، والتذكير بنعم الله سبحانه وتعالى على العباد، والإخبار بالبعث يوم القيامة، والإنذار بما يكون من أهوال يوم القيامة، وتثبيت النبي صلى الله عليه وسلم بأن يصبر؛ فإن النصر سيكون له.
كذلك هذه السورة نزلت بعد سورة الزمر، فانظر إلى الخاتمة في سورة الزمر وإلى البداية في هذه السورة؛ فقد ختم الله سورة الزمر بذكر الجنة والنار، وبذكر أهل الجنة وأهل النار، وذكر رحمة رب العالمين وذكر عذاب رب العالمين سبحانه، وبدأ هذه السورة بما يشير إلى ذلك: أن الله سبحانه وتعالى العزيز العليم غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو، فختم بما يدل على قوته وقدرته وعذابه لمن خالفه وعانده، ورحمته سبحانه للمؤمنين، وبدأ هذه السورة بما يدل على ذلك.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.