تفسير قوله تعالى: (أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة)

قال الله تعالى: {أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ} [الزمر:58] أي: حين تعاين عذاب رب العالمين سبحانه: {لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً} [الزمر:58] أي أنهم إذا دخلوا النار يقولون: {رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:100] أي: لعلي إن عدت مرة أخرى أن أعمل صالحاً، ولكن الله عز وجل منع العودة إلى الدنيا، وبين أنها أمنية لا يمكن أن تتحقق؛ ولذا صدرت بلو قال تعالى:: {لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الزمر:58] أي: لو رجعت إلى الدنيا مرة ثانية فسأكون من المحسنين، فقد تبت إلى الله عز وجل، وسأحسن أفضل الإحسان إن أعادني فيجيبه ربه سبحانه فيقول: {بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [الزمر:59] وقوله: بلى: جواب عن استفهام منفي، وظاهر الآية أنه لا يوجد استفهام منفي، ولذا يقدر في الآية بمعنى قوله تعالى: {لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [الزمر:57] ليصبح المعنى: ما هداني الله أو لم يهدني الله، فيجاب: بلى، فينفي نفي هذا الذي يقوله ليكون المعنى: قد هداك: لأن نفي النفي إثبات، فكأن العبد يقول: ما هداني الله فأكون من المتقين، أو ما فعل الله عز وجل بي كذا فأكون من المحسنين، فيجاب: بلى، فقد هداك ودلك الله سبحانه تبارك وتعالى على طريق الهدى، فأعذر إليك بأن أنزل الكتاب، وأرسل الرسول صلى الله عليه وسلم، وبين لك النجدين طريق السعادة وطريق الشقاوة، إلا أنك اكتسبت هذه الأعمال فاستحققت عقوبة الله، قال تعالى: {بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [الزمر:59] , فالكافر قد كذب بآيات الله سبحانه واستكبر عن طاعة رب العالمين سبحانه، وكان من الكافرين الجاحدين لربهم سبحانه المنكرين لنعمه عليهم، فقد اقترفوا ذنوباً بعضها فوق بعض، أفبعد ذلك يقول أحدهم: لو أن الله هداني؟! والهدى من الله على نوعين: هدى بمعنى الدلالة، وهذا لجميع خلقه، وهذا الذي لا يستطيع أن ينكره العبد يوم القيامة، وإن قال القائل يوم القيامة: لو أن الله حولني وعاملني كما يعامل هؤلاء المؤمنين، فسيجاب: المؤمن قد قدم في هذه الدنيا ما بسببه رحمه الله فاستحق أن يزيده هدى، قال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} [محمد:17]، فالمؤمنون قد أراد الله عز وجل بهم الخير فدلهم على الطريق ثم أعانهم ففهموا هذا الطريق الحق فعملوا، فزادهم الله عز وجل إيماناً وهدى، أما الكافر فإنه لما دله الله عز وجل على الطريق، أخذ يستهتر ويأنف من اتباع الحق، بل أخذ يتبع الشيطان والهوى، ولذا استحق أن يطمس الله على نوره وبصيرته، فأصبح لا يرى حقاً ولا يجتنب باطلاً، قال الله عز وجل لهذا الكافر: {قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ} [الزمر:59] أي: استكبرت عليها وأنفت أن تطيع الله سبحانه تبارك وتعالى، وكفى المستكبر عقوبة أنه لا يدخل الجنة أبداً، قال صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر) وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الكبر فعرفه بأنه: (بطر الحق وغمط أو وغمص الناس) والمعنى: أنه يرفض الحق ويأبى أن يدخل فيه وأن يتبعه، فكان من كبر المستكبرين أنهم إذا دعوا لا يطلبون أن يدلهم الله على الحق وإنما يقول قائلهم كـ أبي جهل وأمثاله: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال:32] , ومن الكبر كما جاء في الحديث غمص الناس أي: احتقار الناس، ولذا يأتي المتكبرون يوم القيامة مثل النمل، وجاء في سنن الترمذي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وجده هو عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر من الصغار في صور الرجال) فمن استكبر بقوته أو بضخامة جسده في الدنيا؛ فإنه يحشر يوم القيامة مثل النمل من الهوان، فإذا دخل النار كبر الله جثته وكبر حجمه ليناله العذاب في نار جهنم مفرقاً في جسده قطعة قطعة.

ثم يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يغشاهم الذل من كل مكان) ولأن الكافر كان في الدنيا منيع الجانب، متعززاً على المؤمنين، فإنه يحشر يوم القيامة ذليلاً ويقال له تبكيتاً: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان:49]، كان الكفار في الدنيا كـ أبي جهل وغيره يقول قائلهم: أنا عزيز في قومي، أنا منيع الجانب في قومي، أنا كريم على قومي لا يسلمونني لأحد أبداً، وكان في يوم بدر في مثل الحرجة قد أحاطه الكفار يدافعون عنه برماحهم وسيوفهم، مثل الحرجة أي: في مثل الغابة الكثيفة من كثرة من حوله ممن يحمونه ويدافعون عنه، فإنه يعذب يوم القيامة ويقال له: (ذق) أي: ذق العذاب (إنك أنت) أي: لأنك كنت تقول عن نفسك ذلك (إنك أنت العزيز الكريم)، فذق يا عزيز، ذق يا كريم! فما كنت تدعيه في الدنيا من عزة وكرامة عذبت به في نار جهنم والعياذ بالله! ثم يقول النبي صلى الله عليه وسلم عن هؤلاء المستكبرين: (يحشرون يغشاهم الذل من كل مكان، فيساقون إلى سجن في جهنم يسمى بولس) وبولس: اسم سجن في جهنم ثم قال صلى الله عليه وسلم: (تعلوهم نار الأنيار) أي: أفضع النار والعياذ بالله! ثم قال صلى الله عليه وسلم: (يسقون من عصارة أهل النار طينة الخبال) طينة الخبال: أي يسقيهم الله صديد أهل النار والعياذ بالله، والحديث قال عنه الترمذي: حسن صحيح، وحسنه الشيخ الألباني رحمه الله.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015