يقول الله لنبيه عليه الصلاة والسلام وللناس: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر:42]، في هذه الآية دليل على قدرة الله سبحانه العظيم، فهو يذكر لنا في هذه الآيات شيئاً وراء شيء، يذكر أنه الذي خلق السماوات والأرض، والسور المكية فيها كثير من ذلك، ففيها بيان قدرة الله سبحانه وتعالى، وأنه الخالق، وأنه الرب، فيخاطب العقول، هل الذي يخلق كمن لا يخلق؟ هل يستوي من يخلق ومن لا يخلق؟ هل يستوي العبد مع ربه، حاشا لله سبحانه وتعالى.
فالله الذي خلق السماوات والأرض، والله هو الذي خلق هذه الأنفس، والله هو الذي يتوفى هذه الأنفس، فهل تملك آلهتكم من ذلك شيئاً؟ يقول الله عز وجل: {اللَّهُ يَتَوَفَّى} [الزمر:42] أي: يقبضها وافية سبحانه وتعالى، و ((الأَنْفُسَ)) أي: الأرواح، {وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر:42]، فالله يقبض نفوس خلقه إذا ناموا، والنوم أخو الموت كما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه الطبراني في الأوسط والدارقطني من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: (أينام أهل الجنة؟ فقال: لا، النوم أخو الموت، وأهل الجنة لا يموتون)، فلا ينام أهل الجنة، والنوم يحتاجه الإنسان ليستريح، فإن الدنيا دار عناء وتعب ومشقة، فيحتاج الإنسان للنوم ليستريح من تعبه ومشقته، أما الجنة فهي دار السعادة، ودار الراحة، والإنسان مستريح فيها لا يحتاج إلى أن يجدد نشاطه بنوم، بل عمره كله في الجنة في استمتاع وراحة ونعيم مقيم.
فيقول: ((اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا)) أي: إذا جاء وقت الموت قبض الله نفوس خلقه، والتي لم تمت يتوفاها في منامها، فهذا نوع من الوفاة، والله أعلم به وبحال عباده فيه، والأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف.
خلق الله عز وجل الأرواح قبل أن يخلق هذه الأجساد {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا} [الأعراف:172] أي: لئلا تقولوا {يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف:172]، وغفل العباد عن ذلك، ولكن أوجد الله عز وجل في قلوبهم الفطر التي تدلهم على أن الله هو الذي يستحق أن يعبد وحده لا شريك له، فالله هو الذي خلق أرواح عباده، فيقبض هذه الأرواح في وقت وفاتها، ويقبضها أيضاً في وقت نومها، فتخرج الأرواح في وقت نوم الإنسان بطريقة الله أعلم بها، ولكنها ليست كالطريقة التي تخرج حين يموت العبد، وإن كان هذا نوع من الخروج، وتلتقي الأرواح كما يشاء الله سبحانه، ويتعارف بعضها مع بعض، فما تعارف منها ائتلف، فتجد الإنسان يرى غيره أول مرة، وما رآه قبل ذلك، ومع ذلك يستريح إليه ويحبه ويتحدث معه، فيقول: (ما تعارف منها ائتلف)، أي: ما تعارف منها حين قبضها الله سبحانه وتعالى ائتلف، (وما تناكر منها اختلف)، فهنا يخبرنا ربنا سبحانه أنه يقبض الأرواح في حالين، في حال الوفاة، وهو القبض الذي لا رجوع فيه للروح إلى الجسد مرة أخرى في هذه الدنيا، وإنما ترجع إليه حين تقوم الساعة، وقبض آخر لكن الروح ترجع فيه إلى الجسد.
قال: {وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر:42] يقبضها الله سبحانه في وقت نومها قبضاً يعلمه الله سبحانه، وليس كقبض الروح الذي تخرج فلا ترجع إلى الإنسان.
قال الله سبحانه: {فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الزمر:42]، التي قضى عليها الموت يمسكها، فلا ترجع إلى جسدها مرة أخرى، والتي لم يقض عليها الموت ترجع إلى جسدها، وهذه الآية أجملت ذلك وفصله ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث كيفية خروج الروح من البدن في الموت، وأن الله عز وجل يرسل ملك الموت فيأتي ملك الموت إلى من قضى الله سبحانه وتعالى عليه الموت، فيقول: (اخرجي أيتها الروح)، إن كانت روحاً طيبة قال: (اخرجي إلى روح وريحان ورب غير غضبان)، وإذا كانت روحاً خبيثة قال: (اخرجي أيتها الروح الخبيثة، كنت في الجسد الخبيث إلى رب غضبان)، فتخرج هذه وتخرج هذه، كما يشاء الله سبحانه وتعالى.
فهو سبحانه أجمل في قوله: {فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ} [الزمر:42] كيفية خروجها، وأنه جاء إليها ملك الموت فأخرجها، أما الأخرى فلم يخبر النبي أن ملك الموت هو الذي جاءها ولكن الله هو الذي فعل بها ذلك، ثم ترجع إلى الجسد مرة ثانية كما يشاء الله سبحانه وتعالى.
((قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ)) هذه قراءة الجمهور، وقراءة حمزة والكسائي وخلف: ((فَيُمْسِكُ الَّتِي قُضَي عَلَيْهَا الْمَوْتُ)).
قال: ((وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى)) أي: ويرسل النفس التي لم يقض عليها بالوفاة إلى أن تعمر العمر الذي كتبه الله، إلى الأجل المسمى.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الزمر:42]، فهذا نائم وهذا ميت، هذا كهذا ولكن الميت له حال والآخر له حال آخر.
وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (إن الله قبض أرواحنا ولو شاء لردها إلينا)، ومناسبة هذا أنه (كان صلى الله عليه وسلم مع أصحابه في سفر ثم قال لـ بلال: اكلأ لنا الفجر)، فقد نزلوا آخر الليل.
قبل أن يطلع الفجر، فأرادوا أن يناموا من شدة التعب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ بلال رضي الله عنه (اكلأ لنا الفجر) أي: احرس لنا الفجر، (فجلس بلال رضي الله تعالى عنه، ثم نام بلال ونام المسلمون ولم يستيقظوا إلا بعد طلوع الشمس)، لحكمة من الله سبحانه، فلما قام الصحابة فزعوا لذلك، فالنبي صلى الله عليه وسلم طمأنهم بأن الذي فعل بهم ذلك هو الله سبحانه وتعالى، فقال: (يا أيها الناس! إن الله قبض أرواحنا، ولو شاء ردها إلينا)، فالله أراد أن يناموا في هذا الوقت حتى يبين لنا حكم من وقع في مثل ذلك: (فالنبي صلى الله عليه وسلم قام وتوضأ، وتوضأ معه أصحابه، وصلى سنة الصبح ثم صلى الفجر) فبين لنا بفعله صلى الله عليه وسلم أن من نام عن صلاة الصبح، فعليه أن يفعل كالذي قام في وقتها، يصلي النافلة قبلها، ثم يصلي صلاة الصبح بعد ذلك.
وفي الحديث: (إن الله قبض أرواحنا)، وهذا نوع من أنواع الموت، وهو النوم، ثم رد الله سبحانه وتعالى الأرواح بعد ذلك.
وجاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أوى أحدكم إلى فراشه فليأخذ داخلة إزاره، فلينفض بها فراشه وليسم الله فإنه لا يعلم ما خلفه بعد على فراشه، فإذا أراد أن يضطجع فليضطجع على شقه الأيمن، وليقل: باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين).
من السنة أن تنفض الفراش قبل أن تنام عليه، وإذا نمت فمن السنة أن تضع يدك تحت خدك الأيمن، وتقول: (باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه، إن أمسكت نفسي فارحمها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين)، وهذا دعاء عظيم من الأدعية التي علمنا إياها النبي صلى الله عليه وسلم، (إن أمسكت نفسي)، فالذي سينام بين أمرين إما أن يقوم من نومه وإما أن يموت، (إن أمسكت نفسي) أي: قبضت روحي في هذا النوم (فارحمها) أي: فاغفر لها، (وإن أرسلتها) أي: إن بعثت روحي مرة أخرى وتركتني أعيش، (فاحفظني بما تحفظ به عبادك الصالحين)، وهذا من الأدعية الجميلة المهمة، ومنه أن يحفظه كحفظه لعباده الصالحين، وهو سبحانه حفظ عباده الصالحين فوقاهم شرور الخلق، ويقيهم الابتلاءات إلا ما شاء سبحانه وتعالى، ويحفظ عليهم دينهم فيذكرون الله ويقرءون القرآن ويعملون الصالحات، فيحفظهم على ما يحب لهم من خير من كل وجه من الوجوه، ويحفظ لهم تقواهم.
نسأل الله عز وجل أن يحفظنا بما يحفظ به عباده الصالحين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.