الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد: قال الله عز وجل في سورة الزمر: {أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ * كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ * فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ * إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} [الزمر:24 - 31].
لما أخبر الله سبحانه تبارك وتعالى أنه نزل أحسن الحديث وهو هذا القرآن العظيم كتاباً متشابهاً يشبه بعضه بعضاً في الحسن والجمال والبلاغة والفصاحة والصدق، أخبر أن المؤمنين يستمعون إلى هذا القرآن فتقشعر جلودهم من خوفهم من ربهم سبحانه تبارك وتعالى، {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:23]، ذلك الذي يحدث لهم.
وذلك القرآن العظيم الذي جاء من عند ربهم هدى من الله، يهدي به سبحانه عباده إلى تقواه سبحانه تبارك وتعالى، كما قال سبحانه: ((ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ))، فالهدى بيد الله يهدي من يشاء، ويضل من يشاء.
((وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ)) أي: الذي يضلله الله سبحانه فلن يجد من يهديه إلى صراط الله سبحانه تبارك وتعالى.
ثم قال تعالى: {أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} هذا قسم منه سبحانه وتعالى، والقرآن كلام الله رب العالمين سبحانه، وقد نزل بلغة العرب، وكان العرب يحذفون بعض المعاني من كلامهم إذا فهمت من الكلام، فكأن الله يقول هنا: أهذا الذي يتقي بوجهه سوء العذاب كمن ينجو من عذاب الله سبحانه؟ وهل يستوي هذا مع هذا؟ وترك لنا أن نفهم باقي هذه الجملة.
وهذا من فصاحة القرآن العظيم، أن يعبر بالشيء على أشياء.
فقال: {أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ}، وتخيل هذا الإنسان الذي يتقي في الدنيا العذاب، ويتقي في الدنيا السوء بيده، فلو أن هذا الإنسان وجد أمامه ناراً لدفعها بيده، فإنه يدفع بيده الشيء ليصرفه عن نفسه، ويتقيه بوجهه، وأشرف ما في الإنسان وجهه، ولذلك نهينا شرعاً عن ضرب الوجه، سواء كان المضروب مسلماً أو كافراً؛ لأن الله عز وجل كرم وجه ابن آدم.
ولكن هذا الإنسان الذي كفر بالله سبحانه تبارك وتعالى، وأعرض عن ذكر الله، وأهان أولياء الله يستحق أن يهان يوم القيامة، فإنه يدفع بوجهه -وهو أشرف ما فيه- عن نفسه العذاب، فيداه مغلولتان إلى عنقه، فلا يقدر أن يدفع عن نفسه العذاب بكفه، وقد سميت الكف كفاً؛ لأن الإنسان يكف عن نفسه الشر بها، ويدفع بها عن نفسه.
ويوم القيامة لا يقدر الإنسان أن يدفع عن نفسه بيديه؛ لأنهما قد كتفتا ووثقتا، فلا يقدر أن يدفع إلا بوجهه.
فيلقى هذا الإنسان في النار، وقد غلت يداه إلى عنقه، فلا يقدر أن يدفع النار إلا بأشرف ما فيه وهو وجهه، فهل هذا الذي يتقي سوء العذاب ويتقي النار بوجهه يستوي مع المؤمن الصالح الذي يدخل الجنة؟ {أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} كهذا الإنسان المؤمن الذي دخل الجنة؟
صلى الله عليه وسلم لا، لا يستوي أبداً الكافر مع المؤمن، ولا يستوي العاصي مع المطيع، ولا يستوي أصحاب الجنة وأصحاب النار.
قال تعالى: {وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ}، وأيضاً يقال للكافر: ((ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ))، فقد كنت في الدنيا تظن نفسك عزيزاً، وتتعزز على أهل الإيمان، وتظن بنفسك أنك كريم على قومك، وأنهم ينصرونك، ولا يسلمونك إلى العذاب، فأين ذهب ذلك وأنت الآن في النار؟! يقال هذا لـ أبي جهل ومن كان معه، فإن أبا جهل زعم في الدنيا أنه أكرم على قومه من أن يتركوه، وأنهم يدافعون عنه، وقال: إذا دخل النار فإن قومه يدافعون عنه.
ويأتي أبو الأشدين ويقول: أنا أصرف عنكم النار، وسأقف على باب النار وأضع يدي الاثنتين عليها، فلا أحد يستطيع أن يدخل النار، وسأمنعكم منها! فيقال لهم يوم القيامة: ((ذوقوا ما كنتم تكسبون)) أي: ما كسبتم في الدنيا من شر ومن كفر ومن أعمال سيئة، فذوقوا ما كنتم تكسبون، وما كذبتم في الدنيا وقلتم: لا ينفعكم الآن.