قوله: ((أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ)) أي: هداهم الله للإيمان، وهذا أمر الله سبحانه وتعالى الذي يؤكده في قلوب المؤمنين أن الهدى هدى الله سبحانه، وأنه منة من الله أن يمن على المؤمنين بالهدى، يهدي من يشاء بفضله، ويضل من يشاء بعدله.
والله له التقدير سبحانه فهو يقدر ما يشاء، خلق عباده وأمرهم أن يؤمنوا بالقضاء والقدر، وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ويؤكد على هذا المعنى في السور المكية، وأيضاً في السورة المدنية، ولكن أكثر ما يكون في السور المكية، وأصول الإيمان: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقضاء والقدر.
فقضاء الله وقدره يؤكد على المؤمن أن يؤمن به، ولا شيء يكون في ملك الله لا يريده الله سبحانه، ولكن يوجد في ملك الله ما لا يحبه الله، فإذا ذكر أنه لا يريد كذا ولا يحبه وكان هذا الشيء موجوداً في ملكه فهو من الإرادة الكونية، فهذا الكافر يوجد في ملك الله، والله لا يحب الكافر ولكن أوجده الله لحكمة منه سبحانه وتعالى، بخلاف المشيئة فإنه لا يكون إلا ما شاءه سبحانه.
إذاً: يؤكد الله على المؤمن الإيمان بالقضاء والقدر، فيؤمن أن كل شيء يجري في كون الله بقضاء الله سبحانه، ولذلك لما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن الأعمال: هل نحن نعمل في شيء قد فرغ منه أو في شيء نستقبله؟ فأخبر أنه قد جرى في قضاء الله وقدره أن فلاناً في الجنة وفلاناً في النار، وفلاناً شقياً وفلاناً سعيداً، فقالوا: لم العمل طالما أنه مكتوب؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له).
كأنه منعهم من الجدل في أمر القضاء والقدر؛ لأنه امتحان من الله سبحانه، هل تؤمن أو لا تؤمن؟ الله عز وجل يخبرك عن الجنة ويخبرك على النار، ولم يخاطب عقلك بأن تبحث عن الجنة ولا أن تبحث عن النار، وإنما أمرك أن تؤمن بذلك، وأخبر عن السماوات السبع، وعن كرسيه سبحانه، وعن عرش الرحمن سبحانه، وأنه الرحمن على العرش استوى، وأمرنا أن نؤمن بذلك ولم نر الله سبحانه، قال عن المؤمنين: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [البقرة:3]، فالمؤمن يؤمن بالله، والله غيب سبحانه، وهذا الإيمان أن تؤمن بالغيب الذي أخبرك الله عز وجل به، تؤمن بملائكة الله، والملائكة غيب لم تر الملائكة، تؤمن باليوم الآخر، تؤمن برسل الله السابقين على النبي صلى الله عليه وسلم، وتصدق النبي صلى الله عليه وسلم وتتابعه عليه الصلاة والسلام، وأنت لم تر هؤلاء الأنبياء السابقين، ولم تر النبي صلى الله عليه وسلم إنما رآه من كانوا معه، وإنما أنت عرفت معجزاته، وأعظم المعجزات التي أتى بها صلى الله عليه وسلم هذا القرآن العظيم الذي أعجز الخلق ولا يزال يعجزهم إلى يوم القيامة، فالله نزل الكتاب فرأيت الإعجاز في هذا الكتاب، ورأيت الصدق من النبي صلوات الله وسلامه عليه، فأنت مأمور أن تتفكر في ذلك، وأن تنظر في ذلك، هل هو نبي أو ليس نبياً؟ كل نبي لا بد أن يدعو إلى دين ومعه معجزة تؤيده، ومعجزته صلى الله عليه وسلم هذا الكتاب العظيم القرآن، فإذا عرفت أنه صادق وأنه حق انقطع الأمر عند ذلك، أما أن كل شيء من الغيب يريد العبد أنه يتفكر فيه بعقله فلا؛ لأنا لم نؤمر بهذا الشيء، ولذا كان غيباً، ولو شاء الله لجعله شهادة، ولو جعله شهادة لآمن كل الخلق، ولم يكن منهم المؤمن ولا الكافر، ولو أن الله سبحانه أطلعنا على الجنة لما تركها أحد أبداً، ولو أن الله أطلعنا على النار لما أراد أحد أن يدخلها أبداً، ولكن الله أخفى ذلك، وأمر العباد بأن يعبدوه، وجعل الجنة محفوفة بالمكاره، والنار بالشهوات، وابتلى العباد، فهل يؤمنون أم يكفرون؟ وقد علم الله سبحانه من منهم سيؤمن ومن منهم سيكفر، وقضى وكتب عنده كل شيء، وأمرنا أن نؤمن بأنه قدر الأشياء فأحكمها سبحانه وتعالى، ولا يكون في ملكه إلا ما يريد.
قال لنا سبحانه: ((أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ)) أي: هدى الله المؤمنين منه سبحانه، فعلى المؤمن أن يستشعر ذلك، فأنت حين تقوم من نومك في وقت الفجر تتوضأ للصلاة وتذهب إلى بيت الله وتصلي، وغيرك من الناس نائم لا يبالي بالصلاة، أليس من كرم الله سبحانه وتعالى عليك أن أيقظك دون غيرك، ومن فضل الله عليك أن من عليك فهداك فجئت إلى بيت الله فصليت، فأخذت أجر الجماعة، فكان لك من الله الأجر العظيم؟ هذا توفيق من الله وهدى من الله سبحانه وتعالى.
فالمؤمن حين يسمع كلام الله عز وجل وحين يستمع إلى آيات قضاء الله وقدره، وحين يرى نفسه قد وفقه الله للطاعة؛ يحمد ربه سبحانه وتعالى على ذلك، ولا يجادل، وكونك صليت وغيرك لم يصل هذا قضاء الله سبحانه وتعالى، أنت وهو أمرتما أن تأخذا بالأسباب، فأنت أخذت بالأسباب فقمت، وهو لم يأخذ بالأسباب، وعلم الله ما في قلبه فلم يوفقه لذلك، والله يحكم ما يشاء سبحانه وتعالى.
إذاً: علينا أن نؤمن بالقضاء والقدر الذي يؤكده الله عز وجل في كل كتابه، فكل شيء عنده بمقدار، ويقول لنا هنا: ((أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ)) أي: من عليهم بالهدى سبحانه، ((وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ)) أي: أصحاب العقول السليمة المستقيمة، أصحاب البصائر.
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.