قال الله تعالى: {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيْم} [الصافات:83]، شيعة الرجل: أتباعه وأولياؤه ومحبوه، وكذلك أهل الرجل، فهؤلاء هم الشيعة، {إِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ} من ذريته وأتباعه في الإيمان إبراهيم الخليل على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وإبراهيم أبو الأنبياء، فكل الأنبياء من بعده هم من ذريته عليه الصلاة والسلام، وإبراهيم معناها بالسريانية: الأب الرحيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فواضح من سيرته كيف كان رحيماً بالمؤمنين، وكيف دعا لأبيه وكان كافراً، ودعا لأهله ودعا للمؤمنين، واستجاب الله عز وجل له في المؤمنين، وجعل من ذريته الأنبياء من بعده، وأبوه كان كافراً فلم يستجب له في استغفاره له ونهاه عن ذلك.
إبراهيم له مزايا كثيرة جداً، وصفات وخصائص حميدة وعظيمة ذكر الله عز وجل بعضها في كتابه سبحانه، وهو الذي كان يلقب بأبي الضيفان، كان إكرامه للضيوف إكراماً عجيباً جداً، حتى إنه ليذبح العجل لثلاثة من الضيوف، ثلاثة ضيوف تكفيهم شاة تذبح لهم وتفيض عنهم، فيذبح لهم عجلاً ويجعله لهم مصلياً حنيذاً مشوياً، وهذا من كرم إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام.
{إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الصافات:84] إذ جاء ربه بقلب موحد لله سبحانه، خالص من الشرك، لا شرك فيه، بقلب نقي تقي عليه الصلاة والسلام، فاستحق أن يكون أمة وحده، جمع من خصال الخير وأعمالها ما لا يجتمع إلا في أمة من الناس، فاجتمع الخير لإبراهيم وحده عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فكان إمام الأنبياء عليه الصلاة والسلام، وكان قدوتهم، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} [النحل:123] عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فكان من المحسنين، وجزاه الله عز وجل على إحسانه أن جعله أباً للأنبياء، وجعل له الذكر الحسن في كل الملل.
هذا إبراهيم {إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الصافات:84] أي: بقلب مخلص من الشرك والشك، لا شك في قلبه، ولا شرك فيه، وكل إنسان يعتريه من الشرك ما يعتريه بحسب ما يشاء الله عز وجل فيه، ويعتريه من الشبهات والشكوك والشهوات حسب ما يقدره الله عز وجل على دفعها أو يهلكه بأن يشغلها قلبه، وإبراهيم عليه الصلاة والسلام لم يكن في قلبه شيء من الشك، حتى إنه لما قال لربه سبحانه تبارك وتعالى: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} [البقرة:260] فإذا بالله يسأله: أو لم تؤمن يا إبراهيم؟ لم تسأل هذا السؤال؟ قال: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى} [البقرة:260]، الإيمان هذا لازم له {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:260] ليزداد يقيناً فوق اليقين، فأنا آمنت بالغيب وأريد المشاهدة أيضاً لأزداد يقيناً فوق اليقين، أما الشك فمستحيل أن يدخل قلب إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، ولذلك يقول نبينا صلوات الله وسلامه عليه تواضعاً وهضماً لحق نفسه مع أبيه إبراهيم الخليل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: (نحن أحق بالشك من إبراهيم)، يعني: إبراهيم بلغ المنزلة العظيمة فمستحيل أن يشك في الله، فإياكم أن تظنوا أن إبراهيم يشك، (نحن أحق بالشك من إبراهيم)، هل نشك نحن؟
صلى الله عليه وسلم لا، وإبراهيم أولى، إبراهيم لا يشك عليه الصلاة والسلام، فيحترمه النبي صلى الله عليه وسلم، ويعظم قدره، ويقول ذلك تواضعاً، وحاشا له صلى الله عليه وسلم أن يشك.
{إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الصافات:84]، قلب سليم يعلم أن الله حق، فيوحد ربه سبحانه، ويكون خالصاً لربه، ليس فيه شيء من أمور الدنيا، وابتلاه الله عز وجل في سلامة قلبه، هل قلبه كله لله عز وجل أم أن فيه شيئاً للدنيا؟ فإذا به يبتليه في كل من يحبهم إبراهيم عليه الصلاة والسلام، فابتلاه في أبيه فدعا أباه إلى دين الله حتى إن أباه يهدده بالرجم والطرد فيقول: {لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} [الممتحنة:4] ما لم أنه عن ذلك، {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم:47]، فيستغفر ربه لأبيه، قال: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا * فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا} [مريم:48 - 49] فابتلي في أبيه، وطرده أبوه فهاجر وترك البلد.
أحب امرأته فابتلاه الله عز وجل في امرأته ليرى هل حبه لله عز وجل أشد أم أن الدنيا قد تفتنه؟ وإذا به يبتلى فيها ويأخذها جبار من الجبابرة في مصر، يهاجر إبراهيم من بلده ويأتي إلى مصر فإذا بالناس يخبرون الملك: إن رجلاً اسمه إبراهيم قدم ومعه امرأة من أجمل النساء، فيبتلى إبراهيم ويصبر لأمر الله ويدعو ربه سبحانه تبارك وتعالى.
وابتلاه الله عز وجل في ابنه وأمره أن يذبح ابنه بيده: هل ابنك أحب أم نحن أحب إليك؟ فإذا به يفعل ما أمر الله عز وجل به، وإذا بالله يرفع عنه هذا البلاء ويقول: {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات:105]، مثل إبراهيم ونوح والأنبياء عليهم الصلاة والسلام الذين أحسنوا وصبروا لأمر الله سبحانه.
ابتلاه الله في نفسه عليه الصلاة والسلام فيحمل في المنجنيق ويلقى في النار، هل يدعو أحداً غير الله سبحانه أو أنه سيصبر على ذلك؟ وتأتيه الملائكة تسأله: ألك إلينا حاجة؟ يقول: لا، حاجتي إلى الله وحده سبحانه تبارك وتعالى، وهو يلقى في النار ولا يطلب شيئاً إلا من الله عز وجل! ويأتي أمر الله: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69]، فكانت أحلى أيامه تلك التي مكثها في النار والنار حوله، وهو كأنه في جنة بداخلها عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
فهذا القلب السليم الذي وصل به إبراهيم لأن يكون أمة وحده، وأن يكون إماماً للأنبياء عليه الصلاة والسلام.