قال تعالى: {وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُندٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ} [يس:28].
يعني: هؤلاء أحقر من أن ننزل عليهم جنداً من السماء لإهلاكهم وما كنا لنفعل ذلك بهم.
فما كان الأمر إلا أن قال: {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً} [يس:29]، من جبريل عليه السلام فهلكوا.
قوله تعالى: {صَيْحَةً وَاحِدَةً} [يس:29]، منصوبة على أنها خبر كان عند أكثر القراء.
وقرأها أبو جعفر: (إن كانت إلا صيحةٌ واحدةٌ فإذا هم خامدون)، فجعل (كان) تامة، و (صيحة) فاعل، والمعنى: ووقعت صيحة واحدة على هؤلاء فإذا هم خامدون.
والإنسان عندما تكون فيه النفس يكون حياً، فإذا خرج روحه من جسده همد وخمد، وذهبت منه الحياة.
فإذا بصيحة من جبريل على هؤلاء أخمدتهم جميعهم.
انظر كيف أخمدهم الله سبحانه وتعالى بصيحة واحدة، ولم ينزل عليهم ملائكة، كما قال تعالى: {إِنْمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82].
وقد ذكر الله تعالى هذه القصة في سورة مكية حتى يطمئن نبيه صلى الله عليه وسلم أن الله ينصر رسله، وينصر دينه سبحانه وتعالى.
هؤلاء لا قيمة لهم عند الله، فلم ينزل عليهم جنداً من السماء، وفي يوم بدر أنزل الله سبحانه وتعالى ملائكة من السماء على النبي صلوات الله وسلامه عليه، وطمأن المؤمنين بأنه ينزل عليهم من السماء ثلاثة آلاف مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ، وينزل ِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ، فهل يستحق هؤلاء الكفرة الذين مع النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليهم الملائكة؟ ف
صلى الله عليه وسلم لا، فليس إنزال الملائكة تقديراً لهؤلاء الكفرة، وإنما ذلك لعظيم منزلة النبي صلوات الله وسلامه عليه وعلو قدره، فأراد الله بذلك أن يري المؤمنين والأمم من بعدهم كيف جعل الله سبحانه للنبي صلى الله عليه وسلم منزلة عظيمة أن يقاتل معه المؤمنون من الإنس والملائكة، ويشاهد الناس الكرامات والبركات ومعجزات النبي صلوات الله وسلامه عليه.
ولذلك عندما يسمع المؤمنون من يقول: أقدم حيزوم، ويخبرون النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فيقول (هذا جبريل) فيخبر عن جبريل عليه السلام أنه أتى ليقاتل مع المؤمنين، وكذلك أتى جبريل عليه السلام في يوم الخندق، ففرق الله الأحزاب عن النبي صلوات الله وسلامه عليه، وأرسل عليهم جنداً من عنده وريحاً، وأتاهم الرعب والخوف فرحلوا عن النبي صلوات الله وسلامه عليه.
وجعلها الله آية للنبي صلوات الله وسلامه عليه قال تعالى: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب:10 - 11].
فلما ابتلي المؤمنون وزلزلوا جاء النصر من عند الله سبحانه وتعالى، قال سبحانه: {إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} [الأحزاب:9]، فنصر الله عز وجل نبيه، وأنزل الملائكة فإذا به يرى جبريل، قال: (أتاني جبريل وعلى ثناياه النقع)، والثنية: السن الأمامية، و (النقع) الغبار والتراب.
ويقول للنبي صلى الله عليه وسلم: (وضعت لأمتك، والله ما وضعت الملائكة أسلحتهم)، ثم أمره أن يتوجه إلى بني قريظة، فتوجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة، والملائكة معه.
والله قادر على أن يفني اليهود جميعهم ويهلكهم، ولكن هذه سنة الله في الكون كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ} [التغابن:2]، فأراد أن يبتلي أحد الفريقين بالآخر: فالمؤمن يزداد إيماناً ويزداد ثباتاً، ويكون قوياً صلباً في دينه.
ولم تقاتل الملائكة إلا في يوم بدر مع النبي صلى الله عليه وسلم، ونزلت في غيره ولم تقاتل، ولكن لتكثر عدد المسلمين.
وفي يوم بدر كانت هناك معجزات عجيبة، من ذلك أن يقول رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: إنه رفع سيفه على الكافر، فطارت رقبته ولم يضربه.
فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أيدك الله بملك كريم).
ومن ذلك أن العباس عم النبي صلوات الله وسلامه عليه أسره رجل من المسلمين ضعيف وليس في قوة العباس رضي الله عنه، فيقول العباس للنبي صلى الله عليه وسلم: ليس هذا أسرني.
فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أعانك عليه ملك كريم).
قال العباس رضي الله عنه: أنا لست مع الكفار.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كان ظاهرك علينا) وأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يفدي نفسه، ففدى نفسه رضي الله عنه، وفدى عقيلاً أيضاً ابن أخيه، والله تبارك وتعالى أخلف عليه بعد ذلك كما قال تعالى: {إِنْ يَعْلَمْ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ} [الأنفال:70] الآية.
فهنا لما أخبر الله سبحانه أنه ما أنزل من بعده على قومه من جند من السماء، إنما أرسل جبريل عليه السلام فصاح في القوم صيحة، فأهلكهم الله سبحانه وتعالى، فتحسروا على أنفسهم: {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ} [يس:30]، وجاء التحسر على وجه النداء كأنه قال: يا حسرة أقبلي، والحسرة الندامة والتلهف على الشيء الذي يفوت، ففاتهم الإيمان.
و (حسرة) نكرة ولذلك نصب المنادى مع كونه مفرداً، وهذا كقول من وقع في بئر: يا إنساناً أنقذني، وهو لا يعرف المنادى.
قال تعالى: {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ} [يس:30]، أي: تعجبوا لأمر هؤلاء العباد الذين يستحقون أن يتحسروا على أنفسهم وينادوا على الحسرة وعلى الندامة حين لا تنفعهم، فيكون جعلهم محل من يتحسر عليه.
أو أن الله سبحانه جعل الويل عليهم، فتكون الحسرة تعني: يا ويل أقبل لهؤلاء، أو يا عذاب أقبل على هؤلاء القوم؛ فإنهم يستحقون ذلك.
وفي قوله تعالى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ} [يس:30]، قراءتان: قراءة الجمهور (ما يأتِيهِم).
وقراءة يعقوب، (ما يأتيهُم من رسول).
فأي رسول يبعث إلى قوم لا بد أن سفهاء القوم يسخرون منه ويستهزئون به.