قال سبحانه: ((ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا)) فمن هؤلاء؟ قال: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر:32] ذكر المفسرون في هذا التفصيل كلاماً كثيراً جداً فيمن هو الظالم لنفسه؟ ومن هو المقتصد؟ ومن هو السابق بالخيرات؟ فقالوا: الظالم لنفسه هو الكافر أو المنافق أو غير ذلك.
ولكن الظاهر من الآية والحديث أن الثلاثة الأصناف كلهم من أهل الإسلام، ((فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ)) روى الإمام الترمذي، والإمام أحمد أيضاً من حديث أبي سعيد الخدري: (أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ)) [فاطر:32] فقال صلى الله عليه وسلم: كلهم بمنزلة واحدة، وكلهم في الجنة)، هذا حديث عظيم صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه البشارة بأن الإنسان الظالم لنفسه من هذه الأمة المؤمن بالله سبحانه، ولكن غلبت ذنوبه على حسناته، فاستحق أن يعذب، فهذا إما أن يغفر الله عز وجل له، وإما أن يعذبه الله بهذه الذنوب التي غلبت حسناته، وإن دخل النار فعذب في النار، فالله يمن عليه ويشفع فيه من شاء من خلقه ويرحمه ويخرجه من النار ويدخله الجنة، وأما المنافق والكافر وغيرهما فهؤلاء مستحيل أن يدخلوا الجنة لأن الله تعالى يقول: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:145 - 146] فإذا تابوا صاروا مع المؤمنين، ولم يكونوا منافقين، أما المنافقون الذين يبطنون الكفر ويظهرون الإسلام ففي الدرك الأسفل من النار.
وقال تعالى عن الكفار: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، فإذاً: الكفار في النار، والمنافقون في النار، لكن من ذكر الله عز وجل هنا بقوله: ((ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا))، فهؤلاء ممن اصطفاهم الله سبحانه، وممن اختارهم الله وقربهم وهم أمة الإسلام، فمن هذه الأمة الظالم لنفسه، وهو من غلبت ذنوبه حسناته، ((فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ)) والمقتصد هو من استوت حسناته وسيئاته، أو هو من أتى بالفرائض ولم يأت بالنوافل، أو من أتى بما افترضه الله عز وجل عليه ووقع في الذنوب التي حرمها الله سبحانه وتعالى على خلقه، {وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} قال تعالى عن السابق: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة:10 - 11]، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا منهم.
فالسابق بالخيرات لا يجد باباً من أبواب الخير والإحسان إلا واستبق إليه ينفق في سبيل الله سبحانه، ولذلك كان الخيران من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما يستبقان إلى الخير، عمر كان يتمنى أن يسبق أبا بكر يوماً من الأيام، وفي يوم من الأيام أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصدقة، فإذا بـ عمر يذهب إلى بيته ويأتي بنصف ماله ويقول: اليوم أسبق أبا بكر، فيأتي للنبي صلى الله عليه وسلم فيجد أبا بكر قد تصدق بماله كله، فيقول: لا أسبقك أبداً.