يقول تعالى: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [يونس:22 - 23] وانظر إلى الأسلوب القرآني العظيم الجميل بقوله: (حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ) فأسلوب الخطاب (إذا كنتم) يدل على المخاطب، ثم يقول: (وَجَرَيْنَ بِهِمْ) فيدل على الغائب، فهذا من التفنن، حيث انتقل من الكلام للمخاطب إلى الكلام عن الغائب قال: (وَفَرِحُوا بِهَا) أي: اغتروا بذلك، ونسوا الله سبحانه وتعالى حتى جاءتهم ريح عاصف، فالريح يرسلها الله عز وجل ريحاً طيبة، أو يرسلها ريحاً عاصفة، فلما أمنوا واغتروا جاءتهم الريح العاصف، وجاءهم الموج من كل مكان، وهذا تعبير عجيب جداً، وتعبير حقيقي؛ لم يكن أحد يعرفه، ومن رأى هذا الشيء لم يرجع لكي يخبر به بل هلك ومات، فأخبر الله أنهم جاءتهم ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان، فتأتي ريح من هنا وريح من هنا حتى تصير دوامة من وصل إليها غرق لزاماً ولا يرجع من هذا المكان أحد، يقول تعالى: {وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [يونس:22]، والصحابة لم يذهب أحد منهم إلى مثل هذا المكان، بل كانوا يخافون من البحر، ولذلك عمر رضي الله عنه لما كان يبعث البعوث والجيوش كان يقول لقائد الجيش: لا تجعل بيني وبينكم بحراً، بمعنى: اجعل بيني وبينكم يابسة حتى أستطيع على مدكم بالجيوش، فما كانوا يعرفون الخوض في البحار والوصول إلى هذه الأماكن في عهد النبي صلوات الله وسلامه عليه إلا الشيء اليسير القليل، والذي يصل إلى مثل هذه اللجة ويغرق فيها لن يرجع ليخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا المكان كان الموج فيه يأتي من كل مكان، لكن العلم الحديث هو الذي اكتشف أن منطقة الدوامات هي منطقة وجود رياح عاصفة تأتي من كل مكان، وهذا هو الذي أخبر به ربنا سبحانه تبارك وتعالى منذ ألف وأربعمائة سنة على لسان النبي صلوات الله وسلامه عليه؛ إذ لم يشاهد النبي صلى الله عليه وسلم الدوامات، ولم يركب البحر صلى الله عليه وسلم حتى يخبر عن منطقة كهذه، لكن الذي صنعها هو الله سبحانه، وهو الذي أخبر عنها في كتابه سبحانه وتعالى، فالإنسان حين يجد نفسه موشكاً على الغرق يدعو ربه لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين، فينجي الله من يشاء من خلقه سبحانه وتعالى، ويهلك من يشاء من خلقه سبحانه، فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق، وبغي الإنسان إنما هو على نفسه، قال تعالى: {أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ} [يونس:23] أي: تمتعوا متاع الحياة الدنيا {ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [يونس:23] فربنا سبحانه أخبرنا عن إرسال الريح التي يسوق بها السحاب فينزل المطر من السماء لننتفع به، فالله الكريم سبحانه جعل لعباده الرزق كما قال تعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات:22] وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:96] بركات من السماء بنزول المطر، ويأتي البرق وتأتي الرحمة من الله سبحانه، فالبرق الذي يراه الإنسان ويخاف منه فيه خير عظيم جداً، إذ تحصل شرارة كهربائية في السماء باتحاد النيتروجين مع الأكسجين وتتكون أسمده نيتروجينية تنزل في الأرض مع المطر فتخصب الأرض فينبت الزرع من الأرض بسماد جيد من عند رب العالمين سبحانه تبارك وتعالى {وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف:96] فلو اتقى الناس ربهم سبحانه وتعالى لجاء الخير من كل مكان عليهم، ولفتح عليهم الرزق العظيم الواسع، وانظر لحديث النبي صلى الله عليه وسلم في حدود الله عز وجل حيث يقول: (حد واحد يقام في الأرض خير لأهل الأرض من أن يمطروا أربعين صباحاً) فإقامة الحدود التي نص عليها كتاب ربنا سبحانه كقطع يد السارق مثلاً تفيد الناس، إذ كل من رأى ذلك خاف أن تقطع يده وخاف من السرقة، فإذا طبقوا ذلك فسينتشر بين الناس الأمن والأمان، ولو طبق حد الله سبحانه وتعالى في الإنسان الزاني المحصن فرجم، وفي الزاني الغير المحصن بزواج فجلد، وفي القاذف فجلد، لصان الناس أعراض بعضهم البعض، ولما وقع أحد في عرض أخيه؛ لأنه يخاف من الجلد، فقد لا يخاف من التحذيرات التي في القرآن، لكن يخاف من أن يرجم؛ إذا وقع في الزنا والعياذ بالله, فالله عز وجل جعل الحدود رادعة للناس أن يقعوا في ظلم أو أن يقعوا في فاحشة من الفواحش التي حرمها الله سبحانه وتعالى، فإذا أقيم حد من حدود الله سبحانه في الأرض فهو خير لأهل الأرض من أن يمطروا أربعين صباحاً, ولو أقيم حد الحراب كما قال الله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة:33] لوجدت الذين يفزعون الناس ويقطعون الطرق عليهم يرتدعون من جرمهم خوفاً من الحد.
فالله عز وجل يخيف هؤلاء بحده سبحانه، فمثل هذا الإنسان الذي يقطع الطريق على الناس بالسيف، ويقطع الطريق على الناس بالتخويف والتهديد، ويأخذ أموالهم ويقتلهم، فالله عز وجل جعل الحكم عليه أن يقتل أو يصلب أو تقطع يداه ورجلاه من خلاف أو ينفى من الأرض، فهذا جزاؤه في هذه الحياة الدنيا، فإذا رأى الناس قاطع الطريق الذي كان يقطع على الناس الطريق، ويخيف الناس ويفزعهم، ويأخذ أموالهم ويقتلهم، قد قتل وصلب أمامهم فإنهم سيخافون من ذلك، وإذا رأوا فلاناً الذي أخذ أموال الناس كرهاً قطعت يده ورجله فإن الشخص سيخاف أن يفعل به مثل هذا الشيء، فيأمن الناس في بلادهم، وينزل الله البركات من السماء، ويخرج البركات من الأرض، ففعلاً حد واحد يقام في الأرض خير لأهل الأرض من أن يمطروا أربعين صباحاً.