معنى قوله تعالى: (وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه)

قال سبحانه: {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} [سبأ:39] يا أيها المؤمنون! ما أنفقتم لله عز وجل من شيء فهو يخلفه سبحانه تبارك وتعالى، ويعطي مكانه.

والحسنة بعشرة أمثالها عنده، والرزق يزيد في الدنيا، وهذا شيء عجيب جداً! وعد من الله عز وجل، والله لا يخلف الميعاد أبداً، ومستحيل أن يكون إنسان كريماً ويعطي ويتصدق والله يضيق على هذا الإنسان، بل الله يعطيه، فإن ضيق فلحكمة منه سبحانه تبارك وتعالى ولسبب معين، ولكن العادة أن الإنسان الذي ينفق الله يزيد له ماله، وصدق النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: (ثلاث أقسم عليهن - وذكر منها - ما نقص مال عبد من صدقة).

فالإنسان الذي يتصدق الله وعده هنا في كتابه بالخلف فقال: {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} [سبأ:39] وهنا نكر الشيء، أي: ولو كان شيئاً قليلاً فإن الله سبحانه يخلف مكانه ويزيده سبحانه، ويبارك لك في رزقك وفي مالك.

قال تعالى: {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} [سبأ:39] كان علي بن أبي طالب رضي الله تبارك وتعالى عنه يقول لأهل الأموال: أنفقوا فإني سمعت الله سبحانه تبارك وتعالى يقول: {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} [سبأ:39] فكيف تريدون أن يخلف عليكم وأنتم لا تنفقون؟ أنفق من أجل أن ربنا يخلف عليك ويعطي لك غيره أما أنك لا تنفق وتريد أن يخلف عليك فلا.

وجاء عن النبي صلوات الله وسلامه عليه أحاديث جميلة في ذلك، منها: ما كان يقوله لـ بلال رضي الله تبارك وتعالى الصحابي الفاضل الذي عذب عذاباً شديداً في الله فهانت عليه نفسه مع شدة عذابهم له، فقد كانوا يأخذونه ويجرجرونه على الصخر في اليوم الحار الشديد القيض، ويجعلون على صدره صخرة، ويجرجرونه على الصخر؛ حتى يكفر بالله سبحانه، ويضربونه ويسلطون عليه الصبيان ليضربوه، وهو يقول: أحد أحد، يعبد الله وحده لا شريك له، هذا الصحابي الفاضل رضي الله عنه كان عبداً فاشتراه أبو بكر رضي الله تبارك وتعالى عنه وأعتقه وجعله لله سبحانه تبارك وتعالى.

فكان بلال مع النبي صلى الله عليه وسلم، وكان هو مؤذن النبي صلى الله عليه وسلم، وكان مع النبي صلى الله عليه وسلم كصاحب نفقته، وكأنه المسئول عن الإنفاق مع النبي صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم ما كان يحب أن يأخذ معه مالاً ولا يدخر عليه الصلاة والسلام شيئاً، بل ما كان معه من مال أنفقه صلى الله عليه وسلم وأخرجه إلا أن يدخر شيئاً يكون لدين عليه، كما قال عليه الصلاة والسلام: (والذي نفسي بيده! لو كان لي مثل أحد ذهباً لم يسرني أن يمر علي ثلاث إلا وقلت هكذا وهكذا وهكذا عن يمينه وشماله ومن أمامه ومن خلفه، إلا مالاً أرصده لدين) أي: إلا أن يكون علي دين فأخرجه لصاحبه حتى يأتي.

هذا النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه كان بلال معه كصاحب النفقة، يعني: كان بلال هو الذي يأخذ مال النبي صلى الله عليه وسلم، فكان يأتي بطعام النبي صلى الله عليه وسلم، ويأتي بشراب النبي صلى الله عليه وسلم، ويأتي بغير ذلك، وكان يقول له: هات يا بلال، اعط لفلان كذا، واعط لفلان كذا، فالنبي صلى الله عليه وسلم يأمر بلالاً فيعطي، ولعل بلال خاف أن المال سينتهي، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أنفق يا بلال! ولا تخش من ذي العرش إقلالاً) لا تخف، فإن ربنا هو الذي يرزقنا، وليس أنا الذي أعطيك، ولا الناس هم الذين يعطونا، بل يعطينا ربنا، فربنا الرزاق الكريم سبحانه تبارك وتعالى.

فينفق بلال بأمر النبي صلوات الله وسلامه عليه، ولا يخاف نقصان النفقة، فإن الذي يخلف عليهم هو الله سبحانه تبارك وتعالى.

وهنا حديث رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً).

وهذا الحديث رواه الإمام أحمد من حديث أبي الدرداء، وفيه: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما طلعت شمس قط إلا بعث بجنبتيها ملكان يناديان يسمعان أهل الأرض إلا الثقلين) يعني: أنه ينزل ملكان من السماء، حين تطلع الشمس من عند الأفق، ويكونان بجنبتيها عند طلوعها، أحدهما عن يمين الشمس والآخر عن شمال الشمس وهي تطلع.

قال: (يناديان يسمعان أهل الأرض إلا الثقلين) أي: كل من على الأرض يسمع إلا الثقلين: الإنس والجن، فلا يسمعون ذلك.

قال: (ينادي الملكان: يا أيها الناس! هلموا إلى ربكم، فإنما قل وكفى خير مما كثر وألهى، ولا آبت شمس قط إلا بعث بجنبتيها ملكان يناديان يسمعان أهل الأرض إلا الثقلين: اللهم أعط منفقاً خلفاً، وأعط ممسكاً تلفاً).

هذا الدعاء من الملكين دعاء مستجاب عند الله، ولن يبعث الله ملكين يدعوان ولا يستجيب سبحانه لهما، فإن ربنا كريم عظيم يبعث ملكين يدعوان ليستجيب سبحانه تبارك وتعالى لهما.

وتسمع الخلائق الملكين وهما يدعوان: (يا أيها الناس! هلموا إلى ربكم) أي: قوموا اعبدوا ربكم سبحانه وتعالى.

قوله: (فإنما قل وكفى) اذهبوا إلى أرزاقكم، واطلبوا رزق الله سبحانه، ولا تطلبوه بمعصية الله، ولا تطلبوه من الحرام.

قوله: (فإنما قل وكفى خير مما كثر وألهى) إذا أعطاك الله الرزق ولو كان قليلاً طالما أنه يكفيك فهو خير لك مما كثر فأطغاك وألهاك عن الله سبحانه تبارك وتعالى.

وقوله: (ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، ولا آبت الشمس إلا ويقولان: اللهم أعط منفقاً خلفاً وأعط ممسكاً تلفاً) في هذا الحديث الدعاء للإنسان الكريم المؤمن الذي ينفق بأن الله يخلف عليه، ويعطيه مكان ما أنفق، ولن ينفق درهماً ويعطيه درهماً مكانه، ولكن الله أكرم سبحانه يعطي العطاء الكثير سبحانه.

يقول: (وأعط ممسكاً تلفاً) أي: الذي يمسك ماله ويشح على الناس ويبخل يعطيه التلف، فيتلف له ماله، أو أنه يجعل فقره في قلبه، والإنسان الذي ينفق يجعل الله غناه في قلبه، فقد يكون فقيراً قليل المال، ولكن يستشعر أنه أغنى الخلق، وأنه إنسان غني غير محتاج لأحد، وتراه يأكل ويشرب مثل غيره ولا يحتاج إلى أحد، فيجعل الله غناه في قلبه، فهذا المؤمن وإن أفقرت يده ولم يكن فيها الكثير فإنه غني في قلبه.

وتجد إنساناً معه مال كثير والله جعل في قلبه الشح والفقر، يظن أن ماله سينتهي، وتراه يقول: ربما أن ربنا يبتليني بمرض وأحتاج إلى فلوس كثيرة، وربما أدخل مستشفى في يوم من الأيام فأحتاج كذا، فتراه خائفاً أنه سيحصل له في يوم من الأيام كذا، فلم يحصل له شيء، ومات والمال ذهب لغيره ولم يأخذ منه شيئاً! ولا حول ولا قوة إلا بالله، فالغنى غنى القلب.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015