قال تعالى: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ:39] كأن الله سبحانه تبارك وتعالى في الآية الأولى أجاب عن هؤلاء الكفار فقال: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى} [سبأ:37] وهنا قال: {إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [سبأ:36] قالها لهؤلاء الكفار الذين قالوا: إن الله أعطانا في الدنيا أموالاً فسيعطينا يوم القيامة، فإنه فضلنا في الدنيا وهذا دليل على أنه سيفضلنا يوم القيامة، فالله عز وجل رد عليهم وقال: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [الرعد:26]، وبين أنه ليست أموالكم هذه ولا أولادكم التي تقربكم عندنا، ولكن المؤمنين تقربهم؛ لأنهم آمنوا بالله سبحانه، ولأنهم تقربوا إلى الله بالإنفاق في سبيل الله، وبالصدقة على من يستحق ذلك، فأخرجوا أموالهم لربهم سبحانه، فاستحقوا من الله الجزاء العظيم.
ثم قال لهؤلاء المؤمنين مكرراً هذا المعنى العظيم: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ} [سبأ:39] فمن المؤمنين من يعطيه الله سبحانه مالاً ويعطيه من الدنيا متاعاً، ومنهم من يحرمه منها، والله عليم خبير، والله لطيف بعباده، فهو سبحانه تبارك وتعالى يعطي إنساناً ويعلم أن هذا الإنسان لن يغره المال فيعطيه الله سبحانه منه.
وإنسان آخر من المؤمنين الله عز وجل بعلمه وحكمته يعلم أن فلاناً هذا لو فتح له باب الرزق فسيطغى، وسيستكبر، وسيترك العبادة، وسيموت كافراً أو فاجراً أو فاسقاً، فيمنع برحمته سبحانه تبارك وتعالى عنه شيئاً، ولعل هذا الإنسان أن يكون قدامه باب رزق أوشك أن يأخذه، وأن يصير في يده، وإذا بالله عز وجل يمنعه ويأخذه غيره.
فيغضب الإنسان ويحزن ويتضايق في نفسه، لماذا منعت من شيء كان في يدي، لكن الإنسان المؤمن يعلم أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ويضيق على من يشاء؛ لحكمة منه سبحانه.
وحين يحرم شيئاً من الرزق يقول: لعله لو أتاني هذا الرزق لعل الله كان قدر لي مصيبة وراء هذا الشيء، ولعلي لو أخذت هذا الرزق سوف أطغى وأستكبر، ولعلي أقع في معصية الله، فربنا منع عني المعصية بمنع ذلك، فيصير هذا من رحمة الله بي، فالحمد لله سبحانه.
وكان النبي صلوات الله وسلامه عليه إذا أعطاه الله سبحانه من رحمته وفتح له قال: (الحمد لله رب العالمين) فحمد الله.
وإذا منع وابتلى بشيء من ابتلائه سبحانه قال: (الحمد لله على كل حال) فنحمد الله إن أعطانا، ونحمد الله إن منعنا؛ لأنه إن منعنا فقد أعطانا سبحانه تبارك وتعالى، فإن منعك شيئاً من الدنيا أعطاك مكانه في الآخرة، وأعطاك شكراً وأعطاك صبراً وأعطاك حمداً له سبحانه، وإن منعك شيئاً أعطاك ما هو أعظم منه، ولكن أكثر الناس لا يعلمون، فليس كل الناس يعلمون هذا الشيء، فإن الله عز وجل يفتح على الإنسان المؤمن فيعلم حكمة الله سبحانه تبارك وتعالى.
والمؤمن يعلم ويفهم فيحمد ربه سبحانه على عطائه وعلى منعه سبحانه تبارك وتعالى.
والله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده، والكل عبيد لله سبحانه تبارك وتعالى، وكأنه في الآية الأولى ذكر الجميع، وهنا اختص المؤمنين، وكأنه يقول: أنتم يا مؤمنون! منكم من يعبد ويعطيه الله في الدنيا، ومنكم من يعبد ويضيق الله عز وجل عليه في الدنيا؛ ليس لأن هذا أفضل من هذا، ولكن الله أعطى كل إنسان ما يريد سبحانه وما يصلح لهذا الإنسان.
فهناك إنسان لا يصلحه إلا الغنى؛ لأن الله عز وجل جعل في نفسه الكرم، وجعله يحب الإنفاق فلا يصلح مع هذا إلا الغنى، فيعطيه الله عز وجل المال فتظهر أثر النعمة عليه، فيعطي يميناً وشمالاً، وينفق لله سبحانه تبارك وتعالى، فهذا خلقه الله عز وجل لذلك.
وقد كان سعد بن عبادة رضي الله عنه من الكرماء في المدينة، ومن المشهورين بالجود والكرم، فكان له جفنة عظيمة تدور مع النبي صلى الله عليه وسلم في بيوته صلى الله عليه وسلم.
وبيت النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتي إليه الضيوف، ويأتي إليه الناس الذين يريدون أن يتعلموا الإسلام، فيأتون فيطعمهم، فجفنة سعد تساعد في هذا الشيء.
وكان سعد يدعو ربه سبحانه تبارك وتعالى ويقول: (اللهم إنك أعطيتني هذا الإنفاق، اللهم ارزقني الغنى) يعني: أنا أحب الإنفاق وهذا لا يصلح إلا بغنى، فيسأل ربه الغنى، فيعطيه الله سبحانه تبارك وتعالى.
وابنه قيس بن سعد بن عبادة رضي الله تبارك وتعالى عنه تعلم من أبيه الكرم، فكان ينفق كثيراً جداً، فقد خرج قيس في سرية فيها أبو بكر وعمر رضي الله تبارك وتعالى عنهما، وأصابتهم مجاعة، فـ قيس بدأ يستلف ويستدين، فكان يستلف الجمل من الرجل وينحره ليأكل الجيش، وجعل يفعل ذلك إلى أن خشي عمر ومنعه وقال له: ليس عندك مال، المال مال أبيك، فطلب عمر من أبي بكر أن يمنعه من هذا الشيء، فمنعه.
فلما رجع إلى المدينة كلم أباه سعداً رضي الله تبارك وتعالى عنه، وقال: أصابتنا مجاعة، قال: انحر لهم.
قال: فعلت.
ففرح أبوه، وانظر كيف يأمر ابنه على شيء قد مضى، فقال له: ثم أصابتنا مخمصة.
قال: انحر لهم.
قال: فعلت.
ثم قال: منعني أبو بكر ومنعني عمر رضي الله تبارك وتعالى عنهما، فتحسر أبوه على ذلك وقال له: لو نحرت كذا وكذا لأعطيت أنا، أي: كنت سأدفع هذا كله.
فانظر إلى الكرم، فناس لا يصلح معهم إلا الكرم، والله أعلم سبحانه تبارك وتعالى بعباده، فيعلم أن هذا يتصدق، ويزكي، ويعطي لله ولا يمن على خلق الله فيعطيه الله تبارك وتعالى.
وهناك إنسان آخر هو مؤمن، ولكن الله يعلم أنه لو أعطى هذا لعله يعطي وينفق ويمن على صاحبه، فيضيع صدقته كلها، ولعله يمنع ويشح ويبخل، كما قال عز وجل: {وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ} [النساء:128]، فليس كل إنسان يكون في قلبه إيمان يكون على درجة عظيمة من البذل والعطاء، ولكن فيهم وفيهم، فالله يعلم أن هذا يصلح له المال فيعطيه، وأن هذا لا يصلح له المال فيمنعه، وأن هذا يصلح للمال لاختباره فيختبره، والله أعلم بعباده سبحانه، لذلك انظر إلى نفسك في الوضع الذي أنت عليه واعلم أنه خير الأوضاع لك؛ لأنه هو الذي أراده الله عز وجل لك.
فالإنسان قد يشتغل شغلاً، ثم يتركه ويشتغل شغلاً ثانياً، ثم يتركه ويبحث عن ثالث؛ لأنه يبحث عن الرزق الكثير، فهنا لا تعجز ولكن احمد ربك سبحانه؛ فهو أعلم بما يصلح لك، وهذا الذي يصلح لك، وهذا الذي يصلحك لعله لو أعطاك غيره لأطغاك ولأفسدك، فهذه من نعم الله عز وجل عليك.