قال الله تعالى: ((فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ))، هذا بدء الخلق، فقد خلق آدم من هذا التراب، وتركيب جسم الإنسان كتركيب التراب الموجود في الأرض، وعناصره موجودة في جسم الإنسان، فهذا أصل خلقته، لذلك يموت الإنسان ويتحلل ويرجع إلى هذا التراب مرة ثانية.
قال: ((ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ)) أي: بعد ذلك كان الخلق من النطفة، ((ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ)) هذه مراحل خلق الإنسان جاءت في كتاب الله عز وجل بترتيب عظيم بديع، يقول العلماء: إنه أعظم ما يدل على الخلق ما جاء في كتاب الله سبحانه وتعالى، فهذا الترتيب كيف عرفه النبي صلى الله عليه وسلم، لم يكن قد تعلم الطب ولا تعلم التشريح من أجل أن يعرف هذه المراحل الموجودة في رحم المرأة، تأتي النطفة من الرجل إلى رحم المرأة، وهذه النطفة يمضي عليها فترة فتتحول إلى علقة، ويمضي عليها فترة فتتحول إلى مضغة، والمضغة مخلقة وغير مخلقة ليبين الله سبحانه وتعالى لنا.
فذكر لنا هنا سبحانه وتعالى أن هذه مراحل خلق الإنسان، خلق الله عز وجل الإنسان وجعله نطفة في قرار مكين، قال عز وجل: {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:14] عندما يقرأ الإنسان هذه الآية وغيرها ويقرأ كلام علماء أوروبا وأمريكا في أمر مراحل الجنين وخلق الجنين واعتراف هؤلاء بأن القرآن هو الكتاب الوحيد الذي ذكر الترتيب الصحيح بهذا النحو، فيقول المؤمن: صدق الله العظيم الذي يقول: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت:53].
قوله ((ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ)) النطفة معناها: الماء القليل، ينطف الشيء يعني: يسيل منه الماء القليل، فسميت بذلك لقلتها، أيضاً قد تطلق على الماء الكثير، ولكن هذا الإطلاق ليس إطلاقاً دائماً، فيقولون: إن النطف معناه القطر، وليلة نطوفة، أي: دائمة القطر، فهي ليلة ممطرة، لكن الأصل أن النطفة الشيء اليسير من الماء وهو المني.
قال لنا هنا: {فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ} [الحج:5] هذه المراحل توجد بين كل مرحلة فترة زمنية، ولذلك عبر عنها بـ (ثم) التي تفيد التراخي.
إذاً: النطفة تمكث فترة، كما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات)، فهنا خلق الإنسان في رحم الأم يبدأ من النطفة التي يمضي عليها أربعون في أربعين في أربعين، حتى ينفخ فيها الروح بعد ذلك.
قال سبحانه وتعالى: ((ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ)) العلقة: هي القطعة من الدم التي تكون مثل الدودة، فهي معلقة في رحم المرأة، وبعد ذلك تكون مرحلة المضغة، والمضغة كما هو واضح من تسميتها كأنها الشيء الممضوغ، كأنها قطعة لحم ممضوغة، ولذلك بعض علماء الأمريكان لما سأله بعض المسلمين وهو الشيخ الزنداني عن هذه المرحلة: ماذا تسميها؟ وما الوصف الدقيق لها؟ فمكث يفكر ثم قال: لبانة، فاللبانة ممضوغة، فقال الشيخ الزنداني: القرآن ذكر ذلك! فتعجب الرجل جداً كيف أن القرآن ذكر المضغة؛ لأن هذا أدق وصف توصف به هذه المرحلة مرحلة المضغة التي سماها الرجل لبانة ممضوغة، بحيث يكون هيئة الجنين في بطن أمه كقطعة لحم ممضوغة، قال: ((ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ))، فهذه المضغة إما أن يقضي الله عز وجل بتخليقها فتصير إنساناً، وإما أن يقضي بنزولها فتنزل ولا تكون شيئاً، فمن قدر الله عز وجل له أن ينمو عبر عنه بأن المضغة التي يكون منها تكون مخلقة، أما من قدر الله عز وجل أنه لا يموت فعبر عنه بأن المضغة تكون غير مخلقة، وعلماء الطب الحديث يقولون: فعلاً المضغة مخلقة وغير مخلقة؛ لأن فيها من الخلايا ما هو قابل لأن ينمو الآن فينمو، ومنها ما هو غير قابل للنمو الآن، وسيأتي على الإنسان وقت يحتاج إلى خلايا، هذه خلية في المضغة هي أصل من أصول خلايا الجلد، وهذه أصل من أصول خلايا العظم، وهذه أصل من أصول خلايا الدم، فلما يحتاج إليها في يوم من الأيام تخلق، وإذا لم يحتج إليها تبقى على ما هي، فكأن بداخل المضغة ما هو مخلق وما هو غير مخلق كما ذكر الله سبحانه وتعالى، وهذا يذكره علماء التحليل وعلماء الطب الآن في زماننا، فهنا انظر قال تعالى عنهم: {يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا} [النحل:83] أي: هؤلاء عرفوا هذه الآيات وعرفوا كلام الله عز وجل وكلام النبي صلى الله عليه وسلم فيها، ومع ذلك هم أبعد ما يكونون عن ربهم سبحانه! قال: ((لِنُبَيِّنَ لَكُمْ)) أي: نبين القدرة العظيمة من الله سبحانه وتعالى في هذا الخلق.
قال تعالى: ((وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى)) أي: ما شاء الله عز وجل أن ينمو في الرحم كان، فهو يعلم {مَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} [الرعد:8].
(يعلم ما تغيض الأرحام وما تزداد)، غاض الرحم انكمش ثم نزل ما فيه على هيئة الحيض أو على هيئة السقط، أو ازداد الرحم في النمو حتى أصبح بداخله جنيناً فمكث تسعة أشهر أو أقل من ذلك، ثم نزل طفلاً بعد ذلك.
((وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى)) أما ما لم يشأه الله أسقطه.