وقد جاء عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أقوال كثيرة في هذا المعنى، وكذلك جاءت أقوال عن الأئمة رضوان الله تبارك وتعالى عليهم، كالإمام مالك، والإمام أبي حنيفة، والإمام الشافعي، والإمام أحمد، فقد جاء عنهم تحريم ذلك.
قال الإمام القرطبي: قال العلماء بتحريم الغناء الذي تصاحبه الموسيقى، قال: وهو الغناء المعتاد عند المشتهرين به، وهو الذي يحرك النفوس ويبعثها على الهوى والغزل والمجون الذي يحرك الساكن، ويبعث الكامن.
فهذا النوع إذا كان في شعر يشبب فيه بذكر النساء، ووصف محاسنهن، وذكر الخمور والمحرمات لا يختلف في تحريمه، والموسيقى والأغاني الآن فيها كل هذا؛ من الكلام على النساء، وأوصافهن، والحب الباطل، والمقصود عند الناس من الحب هو الفجور، فالرجل إذا أحب المرأة فإنه يغازلها ويفجر بها، وهذا هو الحب الذي يقصدونه، ويورون به عن الفجور والوقوع في الزنا، والعياذ بالله! فهم يقولون الآن الكلمة التي شاعت بين الناس: إنه يمارس الحب؛ حتى لا يظهر أمام الناس أنه يفعل الحرام، فيعلفونها بكلمة أخرى من أجل أن يبعدوا الناس عن معرفة شرع رب العالمين سبحانه وتعالى، فهذا مما حرمه الله سبحانه، وضيع الناس فيه أمر الله وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يقول الإمام القرطبي رحمه الله: فأما ما سلم من ذلك -أي: من غناء ليست فيه معازف وموسيقى، وسلم من هذه الأشياء التي فيها الغزل وذكر النساء، وذكر الحب ونحوه- فيجوز القليل منه.
فلا يشغل المسجل طول النهار يسمع أغاني وأناشيد إسلامية، ويترك القرآن والسنة ودروس العلم، ويلهو عن ذلك، ويقول: نسمع أشياء ليست فيها موسيقى؛ فإنه لما أباح العلماء هذا أباحوه على وجه القلة، بشرط ألا يكون مصحوباً بآلات الموسيقى.
يقول القرطبي رحمه الله: فأما ما سلم من ذلك، فيجوز القليل منه في أوقات الفرح، كالعرس والعيد، وعند التنشيط على الأعمال الشاقة، كما كان في حفر الخندق، وحدو أنجشة وعامر بن الأكوع، فأما ما ابتدعته الصوفية اليوم -وهذا في زمن القرطبي رحمه الله- يقول: ما ابتدعته الصوفية اليوم، أي: في أيامه، ومن قبل ذلك ابتدعوا الأناشيد الدينية التي فيها المعازف، والتي يقومون ويتقفزون فيها ويرقصون بدعوى الوجد الذي حصل لهم من سماع هذا الشيء، ويهتزون ويرقصون، يقول القرطبي رحمه الله: فأما ما ابتدعته الصوفية اليوم من الإدمان على سماع الأغاني بالآلات المطربة من الشبابات والطرب والمعازف والأوتار فحرام.
قال ابن العربي: فأما طبل الحرب فلا حرج فيه، يعني: ما يكون في الحرب من إثارة الناس وتحفيزهم على القتال، يقول: لأنه يقيم النفوس، ويرهب العدو، والدف مباح، والضرب على الدف -يعني: في العيد وفي الفرح- والدف: هو الطار المفتوح من أحد جانبيه، ويجوز الضرب عليه في الفرح وفي العيد.
يقول القشيري: ضرب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم يوم دخل المدينة فهم أبو بكر بالزجر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دعهن يا أبا أبكر حتى تعلم اليهود أن ديننا فسيح)، وهذا الحديث ليس كما ذكر، وإنما الذي صح فيه الحديث الذي رواه ابن ماجه عن أنس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم مر ببعض بيوت المدينة، فإذا هو بجوار -جمع جارية، والجارية: الفتاة الصغيرة السن، أي الطفلة، أو هي التي عمرها عشر سنين أو أقل من ذلك- وهن يضربن بدفهن، ويقلن: نحن جوار من بني النجار يا حبذا محمد من جار).
صلوات الله وسلامه عليه، فقد كان المدح والحب للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يعلم الله أني أحبكن).
يقول الإمام القرطبي رحمه الله: واشتغاله بالغناء على الدوام سفه ترد به شهادته.
قال: فإن لم يدم على ذلك لم ترد الشهادة.
وقال الإمام مالك رحمه الله وقد سئل عن ذلك: إنما يفعله عندنا الفساق.
فأهل الغناء والمعازف يعتبرهم الإمام مالك فساقاً.
وقال أبو الطيب الطبري: أما مالك بن أنس فإنه نهى عن الغناء وعن استماعه.
وقال: إذا اشترى جارية ووجدها مغنية كان له ردها بالعيب، وهو مذهب سائر أهل المدينة، يعني: المنع من ذلك.
قال: أما مذهب أبي حنيفة فإنه يكره الغناء ويجعل سماع الغناء من الذنوب.
وهو مذهب سائر أهل الكوفة، ومنهم إبراهيم النخعي والشعبي وحماد والثوري وغيرهم.
وقال الإمام الشافعي: الغناء مكروه يشبه الباطل، ومن استكثر منه فهو سفيه ترد شهادته.
وهذا الغناء هو الذي ليس فيه موسيقى ولا شيء آخر، وإنما غناء فقط، قال: إنه مكروه، ومن ثم الذي يستكثر منه وأصبح يداوم عليه فترد شهادته.
قال: ثم ذكروا عن الشافعي رحمه الله فيمن يفعل ذلك، ويكثر منه، قالوا: إنه شدد في ذلك، وذكر أنه من الدياثة، والعياذ بالله! وأما الإمام أحمد رحمه الله فقد جاء عنه أنه سئل عن إنسان يتيم عنده جارية مغنية، إذا باع هذه الجارية على أنها مغنية تباع بثلاثين ألفاً، ولو باعها على أنها ليست مغنية تباع بعشرين ألفاً؟ قال: يبيعها على أنها ساذجة.
أي: ليست مغنية.
وحرم الزيادة على كونها تتعلم الغناء وتتعلم الطبل والزمر ونحو ذلك.
فهؤلاء الأئمة الأربعة أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد منعوا من ذلك، وكلامهم منشور مشهور في المنع والتحريم للغناء، فليتق الله كل إنسان مؤمن يبيح لنفسه ما حرم الله عز وجل في كتابه، وعلى لسان نبيه صلوات الله وسلامه عليه.
والله أعلم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.