قال تعالى: {وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ} [القصص:31].
قوله تعالى: {وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} [القصص:31] أي: ارم عصاك على الأرض.
وهنا كان أول العجب لموسى أنه يرى هذه النار في هذه الشجرة، ثم النداء من داخلها، والله عز وجل يناديه، فيقول له: {إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [القصص:30]، فأسمعه الله سبحانه كلامه واختص موسى وحده بذلك عليه الصلاة والسلام، حتى جاء نبينا صلى الله عليه وسلم ولم يكلمه الله عز وجل على الأرض، فالنبي الوحيد الذي كلم على الأرض واختص بذلك هو موسى عليه الصلاة والسلام، أما نبينا صلى الله عليه وسلم فكلمه الله فوق السموات عليه الصلاة والسلام، حين رفع إلى سدرة المنتهى، ورأى نوراً، وكلمه ربه سبحانه وفرض عليه الصلاة، أما على الأرض فالذي خاطبه الله عز وجل وكلمه هو موسى؛ ولذلك وصف بأنه (كليم الله) أي: الذي كلمه الله؛ لقوله سبحانه: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف:143]، وهذا دليل على أن الله عز وجل كلم موسى عليه الصلاة والسلام.
قال تعالى: {وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} [القصص:31] هذه معجزة ثانية وآية ثانية؛ حتى يعلم أنه رسول، وأن الذي يخاطبه هو الله عز وجل حقاً، فلابد أن يريه الله معجزاته، فقد رأى هذه الشجرة التي تتقد ناراً وهي لا تحترق، وسمع النداء من جوف هذه الشجرة، ولا يرى شيئاً عليه الصلاة والسلام، سوى هذه الشجرة.
وقوله تعالى: {وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} [القصص:31] آية أخرى، وهي العصا التي في يد موسى عليه الصلاة والسلام، وقد ذكر الله ذلك في سورة طه، فقال: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} [طه:17]، بعدما أمره بقوله سبحانه: {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} [طه:12]، فيستجيب موسى لأمر الله عز وجل، ويخلع نعليه لينال بركة هذا الوادي المبارك، أو ليتأدب مع ربه سبحانه وتعالى.
ثم يقول الله له: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} [طه:17 - 18].
ويسرد الله عز وجل ذلك: أن موسى يتكلم عن يقين، أن هذه العصا يعرفها جيداً، ويعرف ماذا يعمل بها، عندما يمشي ويتكئ عليها، وليست شيئاً آخر.
وقوله تعالى: {هِيَ عَصَايَ} [طه:18] العصا لي ولم أطلبها من أحد، ولم آت بها من أي مكان، فهي معي دائماً.
قوله تعالى: {أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا} [طه:18] أمشي عليها.
وقوله تعالى: {وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي} [طه:18] أي: عندما أرعى الأغنام أضرب أوراق الشجر، فينزل ورق الشجر فتأكل منه هذه الأغنام.
وقوله تعالى: {وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} [طه:18] أي: منافع أخرى وحوائج أخرى.
قال تعالى: {قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى} [طه:19]، أي: ارم هذه العصا على الأرض التي أنت متأكد أنها عصاك.
فقال سبحانه: {فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى} [طه:20]، أي: فألقى العصا التي يعرفها تماماً على الأرض، فهذه معجزة وآية أخرى لموسى عليه الصلاة والسلام، وأيضاً هي نوع من التشجيع والتربية لموسى على ألا يخاف من شيء، في وسط هذا الليل البهيم المظلم والبرد القارس والمكان الموحش الذي لا أحد به إلا الله سبحانه وتعالى، فموسى عليه الصلاة والسلام، يمرن على الشجاعة وعلى ألا يخاف.
قال تعالى: {فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ} [النمل:10] أي: أن العصا وقعت على الأرض، فإذا بها دبت فيها الحياة واهتزت تسعى وتتحرك.
قال تعالى: {كَأَنَّهَا جَانٌّ} [النمل:10] والجان والجنان: الحية والحيات، فقد وجدها موسى كحية عظيمة تسعى وتتحرك في الأرض، وتفتح فمها، فخاف موسى عليه الصلاة والسلام.
قال سبحانه: {وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ} [النمل:10] فالذي يولي مدبراً، أي: وجه ظهره إليه، والذي يعقب، أي: يرجع مرة أخرى وينظر، ولكنه لم يعقب، حيث جرى موسى عليه الصلاة والسلام من شدة الخوف، وقد أراد الله عز وجل أن يخيفه ثم يطمئنه حتى يتعود موسى عليه الصلاة والسلام على الشجاعة في المواقف التي ستكون أقل من ذلك.
قوله تعالى: {وَلَّى مُدْبِرًا} [النمل:10] أي: أعطى ظهره وجرى.
وقوله تعالى: {وَلَمْ يُعَقِّبْ} [النمل:10] أي: لم ينظر إلى هذا المكان، ولم يرجع إليه.
وقال الله عز وجل لموسى: {يَا مُوسَى لا تَخَفْ} [النمل:10] أي: ارجع إلى مكانك مرة أخرى.
وقوله تعالى: {إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ} [القصص:31] كأنه يقول: لأنك من الآمنين، أو نؤكد لك أنك من الآمنين، ارجع إلى مكانك.
فرجع موسى إلى مكانه فأمره الله سبحانه وتعالى أن يأخذ هذه العصا مرة ثانية وهو في غاية الرعب، والحية تسعى أمامه، ولكن الله طمأنه، وقال: {خُذْهَا وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى} [طه:21]، أي: سوف نرجعها مرة أخرى عصا كما كانت في يدك.
فأمسك موسى عليه الصلاة والسلام بالثعبان فإذا به يرجع عصا مرة أخرى.
فمن يمسك ثعباناً من رأسه، ولكن موسى عليه الصلاة والسلام شجعه ربه سبحانه بهذه التربية العظيمة، فأمسك بهذه الحية التي تسعى، فإذا بها ترجع مرة ثانية إلى هيئتها الحقيقة.
وحجم الحية ذكره الله لنا في سورة طه أنه لما حاج موسى فرعون وجاء السحرة فألقوا حبالهم وعصيهم، فإذا بهذه الحبال والعصي يخيل إلى موسى من سحر هؤلاء أنها تسعى، فأمره الله عز وجل {أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} [الأعراف:117] فلما ألقاها، قال تعالى: {فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} [الأعراف:117]، وهذا يدل على أنها حية ضخمة جداً التي كانت مع موسى عليه الصلاة والسلام.
وقوله تعالى: {تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} [الأعراف:117] أي: تأكل كل العصي، وكل الأشياء التي أمامها، والتي ظن هو أنها حيات، فصارت شيئاً ضخماً، وعندما يؤمر موسى أن يأخذ هذه الحية الضخمة بيده مرة ثانية فهو شيء مرعب ومخيف، ولكن الله يطمئنه فيقول: {سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى} [طه:21] فيمسكها موسى مرة ثانية، فهو أمسك حية تسعى فصارت عصا مرة ثانية.
فهنا يعلم الله عز وجل موسى حتى لا يخاف عليه الصلاة والسلام إذا حدث هذا أمام فرعون، فلو أنه كان للمرة الأولى أمام فرعون وهو خائف، ويمسك العصا ويرميها فتصبح حية، فمن الممكن أن يخاف موسى ويهرب أمام فرعون ويهرب من هم موجودون، ولكن الله يربي موسى على الشجاعة، فإن هذه الحية تمرين وتدريب على ذلك، فعندما تصير حية هناك لا يخاف موسى عليه الصلاة والسلام، قال الله عز وجل: {يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ} [القصص:31] فأمنه الله سبحانه وتعالى مما يحاذر الآن من أمر هذه الحية، وبعد ذلك مما هو قادم عليه مع فرعون وملئه.
قال تعالى: {اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [القصص:32].
قوله تعالى: {اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ} [القصص:32] آية ثالثة، فالشجرة التي فيها النار آية من آيات الله سبحانه، وكلام الله عز وجل لموسى آية من آياته سبحانه، والعصا التي صارت حية آية من آياته، وهذه آية أخرى وهي قوله تعالى: {اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ} [القصص:32] فالجيب: هو مكان دخول الرأس من القميص، فأمره الله عز وجل أن يدخل يده في جيبه، فأدخل موسى يده في جيبه.
قال تعالى: {تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} [القصص:32]، وقد كانت يده سمراء، حيث إن موسى عليه الصلاة والسلام كان أسمر، فلما أدخل يده في جيبه، خرجت يده من جيبه بيضاء شديدة البياض لها شعاع كالشمس.
قوله تعالى: {مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} [القصص:32] أي: تحولت إلى البياض، وهذا البياض ليس برصاً ولا بهاقاً، ولكن آية من آيات الله وجمالاً منه سبحانه فوق جمال موسى، أن تخرج بيضاء من غير سوء، ثم ترجع اليد مرة أخرى إلى ما كانت عليه.
فهي آية من آيات الله عز وجل ليثبت موسى وليريه أن هذا حق من عند الله سبحانه.
قوله تعالى: {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ} [القصص:32]، أي: إذا خفت ضع يدك على صدرك؛ يذهب الخوف؛ لذلك كان ابن عباس رضي الله عنه يذكر أنه ما من إنسان يخاف فيضع يده على صدره متوكلاً على الله منفذاً لذلك، إلا ويذهب الله عز وجل ذلك عنه، والله أعلم.
وقوله تعالى: {مِنَ الرَّهْبِ} [القصص:32] هذه قراءة حفص عن عاصم بفتح الراء وبسكون الهاء.
وأما قراءة شعبة عن عاصم وحمزة والكسائي وخلف: (مِنَ الرُّهْبِ) وهو نفس المعنى.
وقراءة بقية القراء: (مِنَ الرَّهَبِ) بالتحريك فيها، والمعنى: أنه إذا خشيت وأرهبت ضع يدك على صدرك؛ يذهب عنك الرعب، ويذهب عنك الرهب، فيطمئن موسى عليه الصلاة والسلام، فيقول له ربه سبحانه: {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ} [القصص:32].
فهذه جملة آيات وجميعها لموسى عليه الصلاة والسلام، ولكن منها ما هو لفرعون