ربى الله سبحانه موسى في بيت فرعون فتعلم موسى عليه الصلاة والسلام كيف يكون الإنسان وهو في بيت غريب عن أهله، فقد صار كأنه منهم، وصنع موسى عليه السلام بعين الله سبحانه وتعالى في هذا المكان، ولم يغتر بذلك؛ وهذا بفضل الله عز وجل من تربيته لموسى، وقد علم موسى من هم أهله من بني إسرائيل فكان يقف بجوارهم، وكان يدافع عنهم، فكانوا لا يظلمون مع وجود موسى وعليه الصلاة والسلام، وهذا من فضل الله عز وجل على موسى وعلى بني إسرائيل، وقد رباه الله في بيت هذا الفرعون المتكبر الذي يزعم أنه الإله، بل ويزعم أنه الرب، ومع ذلك لم يمل موسى إلى ما هم فيه من بذخ ومن أمور ملك، ومن باطل ما هم فيه، حتى خرج من مصر، وقد ذكر الله عز وجل لنا من حكايته في مدين، ثم رباه عز وجل في بيت الرجل الصالح الذي هو في مدين عشر سنين وهو يرعى الغنم، وهذه تربية أخرى من الله عز وجل ليعود موسى كيف يربي الناس بعد ذلك، وكيف يصبر على أذاهم، فكان صبره عظيماً، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعجب من صبره عليه الصلاة والسلام، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ابتلي وأوذي بشيء يقول: (رحم الله أخي موسى، لقد أوذي بأكثر من هذا وصبر) فموسى صبر صبراً عظيماً عليه الصلاة والسلام، وهذا من قوله سبحانه: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39]، أي: برعايتي، وبكلاءتي، وبحفظي لك، فقد حفظه الله ورباه أحسن تربية على ما رأينا.
وفي هذه الآية يبين الله عز وجل كيف أنه رباه على عدم الخوف إلا منه وحده لا شريك له، فموسى في ظلام الليل وفي شدة البرد، وفي مكان قد تاه فيه ولا يعرف الطريق، فآنس ناراً، أي: أنه استوحش فآنس هذه النار، فتوقع أن يجد بجوارها أحداً قد أوقدها، لعله يأتي منها بخبر، أين الطريق؟ وكيف يتوجه؟ أو يأتي بقبس من هذه النار، فيصطلي هو وامرأته في هذا المكان الشديد البرد.
قال تعالى: {لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} [القصص:29].
ووصل موسى وحده عليه الصلاة والسلام إلى مكان هذه النار، فلما أتاها وجد أمراً عجيباً، وجد شجرة خضراء متقدة ومشتعلة ناراً، ومن العجب أنه لا الماء الذي في الشجرة يطفئ هذه النار، ولا النار تتغير من خضرة هذه الشجرة، فتعجب لأمرها، فلما أتاها ناداه ربه سبحانه وتعالى، قال تعالى: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ} [القصص:30]، فوصل إلى الشجرة التي هي في بقعة مباركة في واد في طور سينا في الجبل المبارك، أو في الأرض المباركة.
قوله تعالى: {نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ} [القصص:30] شاطئ المكان أي: جانب المكان.
قوله تعالى: {مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ} [القصص:30]، يفهم من هذا وهو متوجه إليها أن الشجرة كانت على يمين موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، من شاطئ الوادي الأيمن من هذه البقعة المباركة، من أرض تسمى سِيناء، وتسمى سَيناء، وتسمى سينين، وقد ورد ذكرهم في القرآن، (سِيناء) و (سَيناء) قراءتان في الآية، و (سينين) طور سينين، والطور بمعنى: الجبل وسِيناء وسَيناء وسنين بمعنى المباركة، فهي أرض باركها الله سبحانه وتعالى؛ ولذلك أمر الله سبحانه موسى فقال: {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} [طه:12]، أي: في مكان اسمه طوى، أو الوادي الذي قدسناه مرتين، وطهرناه مرتين.
قال تعالى: {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ} [طه:13]، فجاءت له الرسالة في هذا المكان عليه الصلاة والسلام، فهو مكان مبارك نزلت الرسالة على موسى فيه.
ويقول سبحانه: {نُودِيَ} [القصص:30] الذي ناداه هو الله عز وجل، يدل على ذلك ما ذكر في سورة طه: {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} [طه:12].
وقوله تعالى: {نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ} [القصص:30]، فيخ دلالة على أنه سمع الصوت من داخل الشجرة.
وقوله تعالى: {فِي الْبُقْعَةِ} [القصص:30] أي: في الأرض.
وقوله تعالى: {الْمُبَارَكَةِ} [القصص:30] أي: من الشجرة.
قال تعالى: {أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [القصص:30]، فموسى متوجه إلى مصر، ومصر فيها الفرعون الذي قال للناس: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38]، وهو نفسه الذي قال للناس: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، فهنا يبين الله سبحانه وتعالى لموسى الذي يعلم أن الله هو الرب سبحانه، وأنه هو الأعلى وحده لا شريك له، فيقول له: {إِنِّي أَنَا اللَّهُ} [القصص:30].
وقد ناداه سبحانه {أَنْ يَا مُوسَى} [القصص:30]، أي: اسمع يا موسى.
وقوله تعالى: {إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [القصص:30] هذه قراءة الجمهور.
وأما قراءة نافع وأبي جعفر وابن كثير وأبي عمرو فهم يقرءون: {إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [القصص:30]، وهذه الآية نداء من الله سبحانه لموسى، وجمع الله في هذه الآية بين الربوبية له سبحانه: أنه الرب المدبر لكل شيء، وأنه الخالق لكل شيء، وبين الألوهية له سبحانه: أنه المستحق للعبادة وحده لا شريك له، فالرب الخالق هو وحده الذي يستحق أن يكون إلهاً حقاً معبوداً.
وقوله تعالى: {الْعَالَمِينَ} [القصص:30] جمع عالم، أي: كل عالم، عالم الإنس، وعالم الجن، وعالم الحيوان، وعالم الحشرات، وعالم الأرض، وعالم السماء، وعالم الملائكة، وكل العوالم العلوية والسفلية، الله خالقها ورازقها ومدبر أمورها، وهو ربها سبحانه وتعالى.