الحمد الله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة القصص: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ * فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ * فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [القصص:27 - 30].
يذكر لنا ربنا سبحانه وتعالى في هذه الآيات الكريمة، كيف خرج موسى صلوات الله وسلامه عليه هارباً من مصر، متوجهاً إلى مدين في بلاد الشام، ومن الله سبحانه تبارك وتعالى عليه بالأمان، وسقى للفتاتين أغنامهما وأنعامهما، ثم جاءته إحداهما تمشي على استحياء، ودعته لأبيها فذهب، وقالت له: {إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} [القصص:25] فذهب موسى إلى أبيها، فقص عليه قصته، مع فرعون، وكيف أنه فر هارباً منه، فقال مطمئناً له: {لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [القصص:25].
وذكرنا أن هذا الرجل على قول الكثيرين من المفسرين هو شعيب النبي عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، واستبعد ذلك بعض المفسرين، والأرجح أنه ليس شعيباً وإنما هو رجل صالح، ولعله من أبناء شعيب، أو أبناء أخي شعيب عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
وهذا الرجل الصالح قالت له ابنته: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص:26]، فوصفته بأنه قوي، ووصفته بالأمانة، فقال الرجل: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص:27].
فأراد الرجل الصالح أن يزوج موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام من إحدى ابنتيه؛ حتى يمكث عنده في بيته، وفي بلده، فيكون أجيراً عنده، ثمان سنوات، ولم يذكر ما هي الأجرة التي سيأخذها موسى مقابل خدمته ثمان سنوات أو عشر سنوات؟ ولكن ذكر المفسرون أنه قال له: إنه لك من هذه الأغنام جزءاً، وفي بعض الروايات: أن له ما ولدت الأغنام في سنة من السنين على خلاف ألوان أمهاتها، فإذا كانت الأمهات سوداً فولدت بيضاء فهي لك، وإذا كانت الأمهات بلقاء فولدت حمراء فلك هذه، يعني: ما كان من أغنام على خلاف لون الأصل، قالوا ذلك، ولكن الله عز وجل لم يذكر لنا هنا ما الأجرة التي يأخذها موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام.
لكن جاء في حديث ذكره الإمام القرطبي وإسناده فيه نظر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر أن موسى آجر نفسه على عفة فرجه، وعلى إشباع بطنه.
لكن هذا كله لم يذكره الله عز وجل، لم يذكر إلا لفظ: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ} [القصص:27] أي: على أن تكون أجيراً عندي خلال هذه الفترة.
وماذا سيكون مهر هذه الفتاة التي تزوجها موسى؟ أيضاً لم يذكر هنا إلا الإجارة، قالوا: إذاً سيكون أجيراً، والإجارة هي لنفع الرجل نفسه، فهل يأخذ من مهر ابنته ويشترط لنفسه؟ قد يكون هذا في شرعهم جائزاً، أما في شرعنا فلا يجوز، المهر في شرعنا للبنت، وليس لأبيها، فليس للأب أن يأخذ مهرها لنفسه، إلا ليزوجها به، وليحضر لها أثاثها وأمور بيتها مثلاً، أما أن يأخذ لنفسه المهر فليس له ذلك؛ لأنه ليس في شرعنا هذا الشيء، ولكن قد يكون هذا جائزاً في شرعهم.
أو قد يكون المعنى أعم، أنه يكون أجيراً عنده، وأيضاً لنفع بناته من هذه الإجارة، فيخدم ويرعى الأغنام والأنعام، فيكون الناتج من ذلك جزء منه للأب وجزء للبنت، ولم يوضح لنا ربنا سبحانه ذلك، إنما ذكر {عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص:27].
وقوله تعالى: {فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا} [القصص:27] أي: إذا مكثت عشر سنين عندي فيكون هذا من عندك زيادة، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن موسى مكث الأجل الأتم والأفضل والأكمل.
قال له الرجل الصالح: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ} [القصص:27] يعني: لن تجد من أخلاقي الصعوبة والعسر، ولكن ستجد مني التيسير وتجد مني الصلاح إن شاء الله، قال: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} [القصص:27].
{سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ} [القصص:27] هذه قراءة الجمهور.
وقرأ نافع وأبو جعفر: (ستجدنيَ إن شاء الله من الصالحين)، فهنا الإنسان لا يمدح نفسه أنه من أهل الصلاح إلا أن يستثني فيقول: إن شاء الله أكون على ذلك، فلا يدري هل يستمر على ذلك أم ينقلب عن الصلاح.