تفسير قوله تعالى: (ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن في الأرض)

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.

قال الله عز وجل: {وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} [النمل:87].

يذكرنا الله سبحانه وتعالى بيوم القيامة، وما يكون فيه من أهوال، وما يكون فيه من فزع الخلق، يوم أن ينفخ في الصور نفخة الصعق فيصعق الناس جميعاً.

ثم تكون النفخة الأخرى بعد أربعين كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا ندري أربعين يوماً، أو شهراً، أو سنة، فبين النفختين أربعون.

نفخة القيام للقاء رب العالمين، وللجزاء وللحساب.

فالنفخة الأولى: يصعق فيها الخلق جميعهم، فيموتون.

والنفخة الثانية: يبعثون.

وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر الصور وقال عنه: (إنه قرن ينفخ فيه) أي: بوق ينفخ فيه الملك الموكل بالصور، وهو إسرافيل عليه السلام.

فمنذ خلقه الله سبحانه أعطاه هذا البوق؛ لينفخ فيه حين يأمر الله سبحانه بموت الخلائق جميعهم، ثم بإحيائهم بعد ذلك.

وفي حديث آخر: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كيف أنعم وصاحب القرن -يعني: إسرافيل- قد التقم القرن واستمع الإذن متى يؤمر بالنفخ فينفخ).

وذكر في حديث آخر: (أن بين النفختين أربعين) وراوي الحديث أبو هريرة لما سئل ما الأربعون؟ أهي أربعون يوماً؟ أم شهراً أم سنة؟ قال: أبيت، يعني: أبيت أن أتكلم فيما ليس لي به علم، وإنما هكذا سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم.

فبالنفخة الأولى يصعق الخلق بعد ما يرون علامات القيامة الكبرى التي جاءت في حديث النبي صلى الله عليه وسلم، ثم بعد ذلك يأمر الله عز وجل فينفخ في الصور، فيبعث الخلق مرةً ثانية.

وفي الحديث الذي رواه مسلم عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يخرج الدجال فيمكث في أمتي، أو فيمكث أربعين لا أدري أربعين يوماً، أو أربعين شهراً، أو أربعين عاماً، فيبعث الله عيسى بن مريم كأنه عروة بن مسعود فيطلبه فيهلكه، ثم يمكث في الناس سبع سنين ليس بين اثنين عداوة).

ذكر هنا من علامات الساعة: خروج الدجال، ونزول عيسى عليه السلام.

وقد ذكرنا قصة تميم الداري، وكيف أنهم رأوا المسيح الدجال في جزيرة من الجزر موثقةً يداه إلى عنقه بالحديد، وكذلك من ركبتيه إلى عقبيه موثق بالحديد.

وذكر النبي صلى الله عليه وسلم نزول عيسى بن مريم من السماء إلى الأرض كما رفعه الله سبحانه وتعالى قبل ذلك.

وشبهه برجل من أصحابه اسمه: عروة بن مسعود، فيطلب الدجال فيقتله.

ثم قال: (ثم يمكث الناس سبع سنين ليس بين اثنين عداوة).

فهذه سنين العدل الذي ينتشر فيها الإسلام، ولا يقبل غير الإسلام، فتوضع الجزية؛ لأنه لا يوجد من يدفع الجزية، فكل الناس مسلمون، ويكسر الصليب الذي عبده النصارى وقدسوه، فلا تقوم لهم قائمة بعد ذلك.

ويهدي الله عز وجل الخلق وينزع من قلوبهم الغل والحقد هذه الفترة.

ثم قال صلى الله عليه وسلم: (ثم يرسل الله ريحاً باردة من قبل الشام فلا يبقى على وجه الأرض أحد في قلبه مثقال ذرة من خير أو إيمان إلا قبضته).

فبعد السبع السنين التي يكون فيها المسيح عليه الصلاة والسلام على الأرض، ثم يموت ويصلي عليه المسلمون، ثم بعد ذلك يقبض الله عز وجل المؤمنين الذين على وجه الأرض بريح طيبة وهؤلاء قامت عليهم ساعتهم، وليست هذه القيامة الكبرى؛ لأن القيامة الكبرى لا تقوم إلا على شرار الخلق.

فتأتيهم هذه الربح الطيبة من ناحية الشام فلا يبقى على وجه الأرض أحد في قلبه مثقال ذرة من خير، أو إيمان إلا قبضته (حتى لو أن أحدكم دخل في كبد جبل لدخلته عليه حتى تقبضه) قال عبد الله بن عمرو: سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فيبقى شرار الناس في خفة الطير وأحلام السباع) يعني: غاية في التفاهة، وغاية في التهور والاندفاع، لا عقل عندهم، بل فيهم خفة كخفة الطير، والطائر لا يثبت في مكان، وهؤلاء لا يثبتون على دين متقلبون متهورون، وفيهم أحلام السباع، وأحلام السباع أن تنهش وتأكل وتنام، كذلك هؤلاء في خفة الطير وأحلام السباع.

يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يعرفون معروفاً، ولا ينكرون منكراً).

إذاً: فهنا رفع منهم العلم والإيمان، وبقي هؤلاء الأشرار لا يعرفون معروفاً، ولا ينكرون منكراً.

فيتمثل لهم الشيطان في صورة أحدهم فيقول: (ألا تستجيبون؟) -يدعوهم إلى عبادته- فيقولون: (فما تأمرنا)، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فيأمرهم بعبادة الأوثان).

إذاً: يرجعون مرةً أخرى إلى الجاهلية، وإلى الكفر بالله سبحانه، وإلى عبادة الأصنام من دون الله، وهم في ذلك كثير رزقهم، حسن عيشهم، وهذه فتنة من الله سبحانه، يعبدون غيره والله يعطيهم الرزق الوفير، ويحسن لهم معيشتهم تحسيناً عظيماً فتنةً وابتلاءً، قال تعالى: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا} [آل عمران:178] فالله عز وجل يملي، قال: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف:183].

يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ثم ينفخ في الصور) فهؤلاء قبضهم الله على شر ما يكون الخلق، في خفة الطير، وأحلام السباع، وفي غاية الرزق الحسن وفي غفلة عن الله، وفجأة يأمر الله عز وجل بالنفخ في الصور، قال صلى الله عليه وسلم: (فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتا ورفع ليتا) يعني: أنهم سمعوا صوتاً كأنها زمارة آتية من بعيد، فكل ما سمعه إنسان أمال عنقه وحول أذنه تجاه الصوت فيسمعه كل إنسان على هذه الهيئة.

قال صلى الله عليه وسلم: (وأول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله) أي: أول واحد يسمع النفخ في الصور رجل يصلح البئر الذي يشرب منه الإبل بالطين فيصعق.

ثم قال: (ويصعق الناس ثم يرسل الله عز وجل، أو قال: ينزل الله مطراً) فهذه نفخة الصور كما قال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ} [الزمر:68]، إذاً: جاءتهم الصاعقة مما سمعوه، فاخترق هذا الذي سمعوه آذانهم فقضى عليهم وهم مقيمون على كفرهم، وشرهم، وفيما هم فيه، ولا يستطيع أحدهم عمل شيء حين ذاك، فلذلك جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن الرجلين يتبايعان على الثوب فيمدانه ولا يتمكنان من طيه ولا نشره) بمعنى: أن كل واحد يمد من جانبه، فتأتي عليهم هذه النفخة فيصعق الجميع فلا يتمكنون من توبة إلى الله، وكأن النبي صلى الله عليه وسلم حين يحدثنا بذلك يقول: توبوا إلى الله عز وجل قبل أن ينفخ في الصور، وقبل أن تأتي الساعة وإن لم تكن الساعة الكبرى فساعة أحدنا موته، والموت أقرب لأحدنا من جبينه، وأقرب من حبل وريده.

فلذلك النبي صلى الله عليه وسلم يحذرنا بما يسوقه لنا من أحاديث من التسويف بالتوبة وطول الأمل، فهذا الرجل الذي يلوط حوض إبله يفعل ذلك من أجل أن الإبل تشرب، وفي ذهنه أنه سيعمر ويسقي الإبل ويعيش ويتكسب بإبله.

والآخر يبسط في السوق متاعه من أجل أن يبيعه، والثاني يأخذ المتاع ويدفع، وكلاهما يمد يده إلى صاحبه، فجاءت الساعة فمات الاثنان.

فهل كان على بال أحدهما أنه يموت قبل أن يشتري الثوب أو يبيعه، ويفرح بالمكسب؟! يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ثم يرسل الله أو ينزل الله مطراً كأنه الطل أو الظل، فتنبت منه أجساد الناس)، ينزل مطر كالطل من السماء فينبت الله عز وجل الناس ويحييهم مرة أخرى كما أماتهم، ثم يمضي وقت ما بين النفخة الأولى والنفخة الثانية: وهو أربعون، ولا يعلم أهي أربعون سنة أم شهراً أم يوماً؟ وهل هذه الأيام من أيام الدنيا أم من أيام الآخرة؟ فالله أعلم بذلك، ولكن يمكثون على الأرض أربعين ثم ينزل الله عز وجل على هذه الأرض مطراً، فتنبت هذه الأجسام مرةً ثانية ثم تكون نفخة الصور الثانية.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ثم ينفخ فيه أخرى) إذاً: هذه النفخة الثانية تكون لإحياء هذه الأجساد التي جمعت ونبتت بسبب المطر؛ إذ أنها كانت أجساداً لا حياة فيها.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون، ثم يقال: يا أيها الناس! هلموا إلى ربكم وقفوهم إنهم مسئولون) فتأمل هذا الموقف: لما نزل المطر على الأرض اجتمعت الأجساد، ولما كانت النفخة في الصور قامت هذه الأجساد الميتة من قبورها، فلما قامت سمعت النداء: هلموا إلى لقاء ربكم، وقفوهم إنهم مسئولون، فسيكونون في غاية الفزع، والخوف، والرهبة من هذا اليوم، ومن لقاء الله سبحانه وتعالى.

قال: (ثم يقول الله: يا آدم! أخرج بعث النار، فيقول: وما بعث النار؟ قال بعث النار من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون، فذاك يوم يجعل الولدان شيباً).

أي: هذا اليوم الذي يشيب شعر رأس الوليد من الهول والفزع والرعب، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وذاك يوم يكشف عن ساق) أي: في يوم القيامة يكشف عن ساق، وهذه العلامة التي بين الله عز وجل وبين المؤمنين من خلقه.

وقد جاء في أحاديث أخر ما يكون في هذا اليوم بالتفصيل، فبعد أن يقف الخلق في عرصات القيامة موقفاً طويلاً في يوم مقداره خمسون ألف سنة، ثم يشفع النبي صلى الله عليه وسلم في فصل القضاء بين العباد، يقول الله سبحانه لخلقه: (ألا يحب من كان يعبد شيئاً أن يتبعه فيقولون: بلى) ويفرحون بذلك، فيمثل لمن كان يعبد الشمس الشمس، فيتبعها إلى النار، و

طور بواسطة نورين ميديا © 2015