ثم يذكرنا الله سبحانه وتعالى بيوم القيامة فيقول: {وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} [النمل:87] أي: اذكر ذلك، وفي الزمر قال: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر:68]، وهما النفختان: نفخة الموت، ونفخة النشور.
قال سبحانه: {وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ} [النمل:87] (ويوم) منصوبة مفعول لفعل محذوف تقديره: اذكر أو اذكروا يوم ينفخ في الصور.
والصور: القرن أو البوق مثل الزمارة، وهو بوق عظيم جداً خلقه الله عز وجل، وخلق له ملكاً موكلاً به، وهو إسرافيل ينفخ في الصور حين يأمره الله سبحانه وتعالى.
روى الإمام الترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: (جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما الصور؟ فقال: قرن ينفخ فيه).
وروى الترمذي من حديث أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن واستمع الإذن متى يؤمر بالنفخ فينفخ؟!)، فهذا النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو محسن لا يسيء، والذي عصمه الله سبحانه وتعالى فلا يقع في كبيرة ولا في صغيرة عليه الصلاة والسلام، هذا النبي الذي قال له ربه: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح:2]، ومع هذا يقول: (كيف أنعم) أي: كيف أتلذذ وأتنعم بهذه الدنيا، وأنا أعلم أن الملك قد أخذ الصور ينتظر أمر الله سبحانه وتعالى؟! فالأمر عظيم جداً، والساعة قريبة، فمنذ خلق الله عز وجل الملك إسرافيل وخلق الله عز وجل له هذا البوق لينفخ فيه؛ وهو مستعد لينفخ فيه حين يأمره الله عز وجل.
وجاءت في حديث لفظه: (إنه لا يطرف)، أي: يطرف جفناه خوفاً من أنه إذا أغمض عينيه يأتي أمر الله عز وجل، فهو مستعد للنفخ في الصور بإذن الله رب العالمين، وقد ثقل ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، على الله توكلنا).
فليكثر المسلم من قول ذلك، وليتذكر ذلك، وأنه وإن غفل فليس الله غافلاً عنه، وأنه إن عاش في الدنيا ما بدا له فهو إلى موت وإلى قيامة وإلى حساب بين يدي الله عز وجل.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إني أول من يرفع رأسه بعد النفخة الآخرة، فإذا أنا بموسى متعلق بالعرش، فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور).
وقد جاءت الأحاديث بأن هذه النفخة تكون يوم جمعة، وأن بين النفختين أربعين، ففي سنن أبي داود والنسائي من حديث أوس بن أوس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فيه خلق آدم عليه السلام، وفيه قبض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة؛ فأكثروا علي من الصلاة).
فيوم الجمعة فضل بأن خلق الله فيه آدم، وفيه مات عليه الصلاة والسلام، وفيه الصعقة حين يموت الخلق.
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بين النفختين أربعون)، ولم يحدد هل هي أربعون يوماً أو شهراً أو سنة، فالرواة سألوا أبا هريرة فقالوا: أربعون يوماً؟ قال: أبيت، يعني: إني لا أتكلم إلا بما أعلم، فلم يخبرني النبي صلى الله عليه وسلم، هل هي أربعون يوماً أو غيرها، قالوا: أربعون سنة؟ قال: أبيت، قالوا: أربعون شهراً؟ قال: أبيت، ثم قال: (ويبلى كل شيء من الإنسان إلا عجب ذنبه، منه يركب الخلق).
فالإنسان إذا مات يتحول كله إلى تراب إلا عجب الذنب، وهو آخر العمود الفقري، والمكان الذي يكون منه ذيل الحيوان، هذا المكان الذي في الإنسان لا يبلى، ويخفيها الله عز وجل بما يشاء، ولا تأكلها الأرض.
والذين يحرقون الجثث في بعض بلاد الكفار حين يموت الميت، يتعجبون من أن الجثة كلها تحترق إلا هذه العظمة التي في آخر الإنسان فإنها لا تحترق فيدفنونها أو يلقونها، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في هذا الحديث، وأن الإنسان يبلى كله إلا عجب الذنب، والمعنى: أن الإنسان يكون مثل النبات، فالنبات ينبت من حبة صغيرة حتى يكون شجرة كبيرة، وكذلك الإنسان ينبت يوم القيامة من عجب الذنب.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم.
وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.