قوله تعالى: {يَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل:62]، السوء: هو كل ما يسوء الإنسان، كالضرر الذي ينزل به، فإذا به لا يقدر على كشفه، فيساء منه أو يسوؤه ذلك، فالذي يكشف عنه ما نزل به هو الله سبحانه وتعالى.
وقوله تعالى: {وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ} [النمل:62]، معناه: أن الذي يجعلكم خلفاء هو الله، أي: يستخلفكم في الأرض، بأن يجعل بعضكم وراء الآخر خليفة له، بحيث يذهب إنسان ويخلف الله غيره، ويذهب هؤلاء ويأتي بخلفاء غيرهم، ومعنى الخليفة كما يقول الله عز وجل للملائكة: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30]، أي: خلفاء يخلف بعضهم بعضاً، ومن نعم الله سبحانه وتعالى التي من بها على العباد: الموت، ولذا يقول الله تعالى: {((قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} [الجاثية:26]، فلو ترك الله عز وجل عبده حياً وعاش مائة سنة ومائتين وألف سنة، كما عمر نوح، فلن تكون له قوة ولا قدرة، ولن يعير عقله كاملاً مكتملاً يرى ويفهم ويعي ما حوله؛ فكلما تقدمت به السنون رد إلى أرذل العمر ونسي وجهل وساء خلقه وقلل من طاعة ربه وصار ضعيفاً، فبعد أن كان يصلي قائماً صلى قاعداً، وبعد أن كان يكثر من الصلاة قلت صلاته، وأصابته الأمراض فإذا به لا يقدر على شيء، قال الله عز وجل: {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ} [النحل:70]، وهو العمر الرذيل الذي لا يعلم فيه الإنسان بعد علم شيئاً، فبعد أن كان عالماً يعرف، إذا به لا يعرف شيئاً، وكم رأينا ممن ردوا إلى أرذل العمر لا يجدون شيئاً ولا يقدرون حتى على الصلاة، وإذا جلس أحدهم ليصلي سرح في صلاته واحتاج إلى من يذكره: أنت في الركعة الأولى أو في الثانية وهكذا، وقد يدخل في صلاته ثم ينام وهو فيها، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ بالله عز وجل من أن يرد إلى أرذل العمر، فكان يقول: (أعوذ بك أن أرد إلى أرذل العمر)، وعندما يصير الإنسان إلى أرذل العمر يكون عند الناس مكروهاً بغيضاً لا يحبونه، وقد ينفر منه الأقربون، فكيف يكون حال إنسان كانت الدنيا في يوم من الأيام تتكلم عنه، واليوم لا يطيق أحد مجالسته أو التكلم معه! الأمريكي السابق أصيب الآن بمرض أنساه كل من حوله، وأنساه نفسه بعد أن كان الحرس حوله يحرسونه في كل مكان، وبعد أن كان يتعالى على الناس ويترفع عليهم، أصبحوا الآن يحرسونه ليمنعوا عن الناس شره؛ لأنه لا يعرف من حوله، وقد كان في يوم من الأيام رئيساً لأمريكا التي تعد أقوى دولة في العالم، وكان الناس ينظرون إليه أنه شيء كبير، لكنه الآن في مصحة في قصر عظيم، داخل غرفة مغلقة، لا يختلط بأحد وعندما يعود إليه عقله يجلس وينظر قليلاً من النافذة وهكذا، فالله عز وجل جعل بني الإنسان خلفاء في الأرض يخلف بعضهم بعضاً، وأراح بعضهم من بعض بالموت، بعد أن يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته.
والموت خير للإنسان المؤمن؛ لأنه إذا مات ابتعد عن الفتن، وصار إلى رحمة رب العالمين سبحانه {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلا تَعْقِلُونَ} [القصص:60]، فإذا قارنا بين الدنيا والآخرة كان الأفضل للإنسان ما عند الله، ولذلك ما قبض الله نبياً إلا وخيره، فلما جاءت وفاة النبي صلى الله عليه وسلم خير بين الدنيا والآخرة، فاختار ما عند الله سبحانه، وقال: (بل الرفيق الأعلى)، أي: أنه طلب الرفيق الأعلى ولم يطلب الدنيا صلوات الله وسلامه عليه؛ لأن {مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [القصص:60].
وكما أن الموت خير للمؤمن من أن يرد إلى أرذل العمر، فهو خير للكافر أيضاً، قال الله سبحانه: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا} [آل عمران:178]، فكلما عمر الكافر ازداد إثماً، حتى يتوفى على ذلك، ولذلك كان الموت خيراً له من أن يعيش ويزداد إثماً.
وليس معنى أن الله عز وجل جعل العباد خلفاء في الأرض: أنهم ملوك، إذ ليس كل الناس ملوكاً في الأرض، إنما يكون الملك منهم واحداً، والباقون كلهم رعية، فمعنى جعل الله الناس خلفاء أي: يخلف بعضهم بعضاً، ولو أن الله عز وجل ترك للناس العمر الطويل، وترك لهم عقولهم، وترك فيهم قوتهم أعماراً طويلة، فسيصبح الملك طول عمره ملكاً، ويظل على ذلك مائة سنة ومائتين، وسوف يكرهه الناس، وهو مع ذلك والناس يكرهوه يظل ملكاً عليهم، إذاً: أليس من رحمة رب العالمين سبحانه أنه لم يطل في عمر هذا الإنسان، بل جعل عمره قصيراً، ثم أخذه برحمته؟ فمن رحمته سبحانه وتعالى أنه لا يديم للظالم ملكه، ولا يبقيه في مكانه، ولكن يأخذه سبحانه ويأتي بغيره.
وهكذا فكل إنسان كان رئيساً على قومه ووالٍ عليهم، لو أن الله أطال في عمره وأبقاه في مكانه، فلن يرتقي إلى ذلك المكان الذي هو فيه أحد، وكلما ولد مولود فهو من الرعية الذين لا يملكون شيئاً ولا يقدرون على شيء، ولكن من الله عز وجل على العباد بنعمة الموت، فيقبض هؤلاء، وكل غيرهم محلهم؛ لعلهم يصلحون ويعتبرون فيكونون أحسن ممن كانوا قبلهم.
إذاً: فالله سبحانه يمن على العباد في هذه الآيات ويقول: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ} [النمل:62]، فهو يسألهم سؤالاً فيه إنكار على من يعبدون غير الله سبحانه، وفيه تقرير لوحدانيته سبحانه، وأنه مستحق وحده للعبادة دون غيره.
والجواب على هذه الأسئلة: أن الله سبحانه هو الذي يفعل ذلك دون غيره.
قال الله تعالى: {أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل:60]، يستحق العبادة وقد أعطاكم هذه النعم سبحانه وتعالى فهو {يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ} [النمل:62]،
و صلى الله عليه وسلم لا إله إلا الله ولا يستحق العبادة إلا الله، وحده الذي أعطانا هذه النعم العظيمة.