في هذه السورة ذكر الله عز وجل ما دار بينه وبينهم مختصراً، وفي سورة الأعراف قال الله سبحانه: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} [الأعراف:85]، وهنا قال: {كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:176] وأهل مدين هم أصحاب الأيكة، وذكر بعض المفسرين أن مدين قوم وأصحاب الأيكة قوم آخرون، وقد أرسل شعيب إلى الفريقين، واستدلوا على ذلك بأنواع العذاب، فقالوا: هؤلاء أصابهم عذاب يوم الظلة، وأولئك أصابتهم الصيحة والرجفة من الله عز وجل، فيكون هؤلاء قوم وهؤلاء قوم.
ونقول: هذا ليس بصواب، وإنما الصواب أن شعيباً أرسل إلى مدين الذين هم أنفسهم أصحاب الأيكة كما ذكر ربنا سبحانه وتعالى.
فهنا في هذه السورة قال: {كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ} [الشعراء:176 - 177]، مع أن العادة قبل أن يذكر ثموداً ويذكر عاداً يذكر الأنبياء فيقول: {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ} [الشعراء:124]، ويقول: {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ} [الشعراء:142] ويقول: {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ} [الشعراء:161]، وهنا لم يقل: أخوهم مع أنه أخ لهم في النسب، فهو من القبيلة نفسها، وعبر عن ذلك في قوله سبحانه: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} [الأعراف:85]، وهذه هي التي أحدثت إشكالاً عند بعض أهل العلم، فقالوا: هؤلاء قبيلة وهؤلاء قبيلة، فهو أخ لمدين وليس أخاً لأصحاب الأيكة، والصواب: أنهم هم هم، ولكن هنا لطيفة أشار إليها الحافظ ابن كثير رحمه الله في ذلك فقال: هؤلاء -يعني أصحاب الأيكة- هم أهل مدين على الصحيح، وكان نبي الله شعيب من أنفسهم، وإنما لم يقل هاهنا: أخوهم شعيب؛ لأنهم نسبوا إلى عبادة الأيكة، وهي شجر ملتف كالغيضة كانوا يعبدونها، فلهذا لما قال: {كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:176]، لم يقل: إذ قال لهم أخوهم شعيب، وإنما قال: {إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ} [الشعراء:177]، فقطع نسب الأخوة بينهم للمعنى الذي نسبوا إليه، وإن كان أخاهم نسباً، ومن الناس من لم يفظن لهذه النكتة فظن أن أصحاب الأيكة غير أهل مدين، فزعم أن شعيباً بعثه الله إلى أمتين.
وقال تعالى في سورة الأعراف: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:85]، فدعاهم إلى عبادة رب العالمين، وحذرهم من الشرك وعبادة الجمادات، قال: {قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [الأعراف:85] يعني: هو جاءهم بآية من عند رب العالمين، ولم يذكر لنا ربنا سبحانه ما هي هذه الآية، كما لم يذكر لنا في قصة عاد مع نبيهم هود عليه السلام ما الآية التي جاء بها إليهم، ولكن كل نبي قد جاء لقومه بآية من الآيات.
فهنا جاءهم نبيهم بآية من عند ربهم سبحانه، وقال: {قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [الأعراف:85]، وكل هذا من أجل أن تصدقوا بربكم سبحانه، ومن أجل أن تستجيبوا لما أدعوكم إليه وتتركوا المعاصي والفواحش التي تقعون فيها، فقال لهم عليه الصلاة والسلام: {فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأعراف:85] أي: إن كنتم تؤمنون بالله سبحانه وتعالى فصدقوا ما أقوله لكم ولا تصنعوا هذه الأفعال القبيحة الشنيعة.
فكلام شعيب عليه الصلاة والسلام مع قومه كلام فصيح، وقد ذكره الله عز وجل وساقه في سورة الأعراف، وفي سورة هود، وهنا في الشعراء، ففي سورة الأعراف يقول الله سبحانه على لسان شعيب عليه السلام: {وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ * وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} [الأعراف:86 - 87]، فهذا كلام عظيم بليغ فصيح من نبيهم عليه الصلاة والسلام، ولذلك لقب بخطيب الأنبياء عليه الصلاة والسلام، وكان ضريراً عليه الصلاة والسلام، فيذكر هنا من ضمن الأشياء أو الجرائم التي يقعون فيها أنهم لا يوفون في الكيل ولا في الميزان، وأنهم يظلمون الناس ولا يدفعون لهم حقوقهم بل يبخسونهم، وكانوا يقعدون للناس في الطريق ويأخذون منهم الضرائب والعشور من أموالهم، فقال: {وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ} [الأعراف:86] أي: تتهددون الناس على كل طريق لتأخذوا منهم المال {وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا} [الأعراف:86] يعني: تؤذون المؤمنين الذي اتبعوني ودخلوا في ديني، فتقعدون لهم في الطرق وتخيفونهم، ولم يكتفوا بإخافة المؤمنين بل أخافوا نبيهم عليه الصلاة والسلام بالتهديد والوعيد، حتى استفتح ربه عليهم، وسأل الله أن يفتح بينه وبينهم بالحق.
إن سياق الآيات غاية في الجمال والمناسبة التي تجدها فيها، فانظر هنا في سورة الأعراف لما ذكر الله سبحانه أن هؤلاء خوفوا نبيهم دعا ربه سبحانه، فجاءهم العذاب الذي يخيفهم من عند رب العالمين سبحانه، وستلاقي في سورة هود أنهم صاحوا بنبيهم وكأنهم ينكرون عليه ما يقول، فجاءهم العذاب بصيحة من السماء يبتليهم الله عز وجل بها ويأخذهم سبحانه، ففيها مناسبة بين تعذيبهم وبين صنيعهم، ففي كل سورة يقص شيئاً من صنيعهم يناسبه العذاب الذي حاق بهم، فالله عز وجل عذبهم بثلاثة أنواع من العذاب: الأول: أرسل عليهم رجفة زلزلت بهم الأرض.
الثاني: أرسل عليهم صيحة من السماء.
الثالث: أرسل عليهم ظلة تكويهم وتحرقهم بنار؛ لأنهم طلبوا ذلك.
فكأنه أشار في كل سورة إلى المناسبة بين ما طلبوه وما فعلوه وما حاق بهم من العذاب من عند رب العالمين سبحانه.
ثم قال في سورة الأعراف: {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلًا} [الأعراف:86] يعني: لا تنسوا أنفسكم، ولا تغتروا بعشيرتكم ولا بقوتكم ولا بأموالكم.
فقال هنا نبيهم عليه الصلاة والسلام: {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ} [الأعراف:86] أي: أن الذي كثركم قادر على أن يقللكم ويعيدكم إلى الذل مرة ثانية، {وَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف:86] كقوم عاد وقوم ثمود وقوم لوط.
ثم قال: {وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} [الأعراف:87].
فما كان جواب هؤلاء الأقوام؟ يقول الله عز وجل {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} [الأعراف:88]، فهم لم ينظروا إلى الحجج التي جاء بها، ولا إلى الآية البينة التي جاء بها، وإنما نظروا إلى أنهم أقوياء وهو ضعيف، فما دام الأمر كذلك فما نقوله هو الحق، فإما أن ترجع في ديننا أنت ومن معك وإما أن نفعل بكم ونفعل، وهذا التخويف لنبيهم ولمن معه.
فكان جوابه: {قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ} [الأعراف:88] أي: هل تعيدوننا إلى الكفر غصباً عنا وتكرهوننا على ذلك؟ ثم قال لهم: {قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا} [الأعراف:89] أي: كيف نرجع ونعود في ملتكم؟! مع أنه لم يعبد الشجرة، وما كان لنبي من أنبياء الله أن يعبد غير الله سبحانه؛ لأن الله يحفظهم قبل الرسالة التي تنزل عليهم وبعد الرسالة، ولكن كأنه يتكلم عن نفسه ومن معه، فالذين معه كانوا قبل ذلك كفاراً، ثم بعد ذلك دخلوا في دين نبيهم شعيب عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فلذلك {قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ * قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا} [الأعراف:88 - 89] أي: لن نرجع في دينكم أبداً، ولكن إن أراد الله تعالى أن يفتن بعضاً منا فالأمر ليس لنا؛ لأن قدر الله سبحانه غالب على كل شيء.
ثم قال: {وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} [الأعراف:89] أي: اقض وافصل بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين، هذه قصة شعيب مع قومه في سورة الأعراف.