وقوله تعالى: وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى أَيْ وَسَيُزَحْزَحُ عَنِ النَّارِ التَّقِيُّ النَّقِيُّ الْأَتْقَى ثُمَّ فَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى أَيْ يَصْرِفُ مَالَهُ فِي طَاعَةِ رَبِّهِ لِيُزَكِّيَ نَفْسَهُ وَمَالَهُ وَمَا وَهَبَهُ اللَّهُ مِنْ دِينٍ وَدُنْيَا وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى أي ليس بذله ماله فِي مُكَافَأَةِ مَنْ أَسْدَى إِلَيْهِ مَعْرُوفًا، فَهُوَ يُعْطِي فِي مُقَابَلَةِ ذَلِكَ وَإِنَّمَا دَفَعَهُ ذَلِكَ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى أَيْ طَمَعًا فِي أَنْ يَحْصُلَ لَهُ رُؤْيَتُهُ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَلَسَوْفَ يَرْضى أَيْ وَلَسَوْفَ يَرْضَى مَنِ اتَّصَفَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ.
وَقَدْ ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، حَتَّى إِنَّ بَعْضَهُمْ حَكَى الْإِجْمَاعَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ دَاخِلٌ فِيهَا وَأَوْلَى الْأُمَّةِ بِعُمُومِهَا فَإِنَّ لَفْظَهَا لَفْظُ الْعُمُومِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى وَلَكِنَّهُ مُقَدَّمُ الْأُمَّةِ وَسَابِقُهُمْ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْأَوْصَافِ وَسَائِرِ الْأَوْصَافِ الْحَمِيدَةِ، فَإِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا تَقِيًا كَرِيمًا جَوَادًا بَذَّالًا لِأَمْوَالِهِ فِي طَاعَةِ مَوْلَاهُ وَنُصْرَةِ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فَكَمْ مِنْ دَرَاهِمَ وَدَنَانِيرَ بَذَلَهَا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْكَرِيمِ، وَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ عِنْدَهُ مِنَّةٌ يَحْتَاجُ إِلَى أَنْ يُكَافِئَهُ بِهَا، وَلَكِنْ كَانَ فَضْلُهُ وَإِحْسَانُهُ عَلَى السَّادَاتِ وَالرُّؤَسَاءِ مِنْ سَائِرِ الْقَبَائِلِ، وَلِهَذَا قَالَ لَهُ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ وَهُوَ سَيِّدُ ثَقِيفٍ يَوْمَ صُلْحِ الحديبية: أما والله لولا يدلك كَانَتْ عِنْدِي لَمْ أَجْزِكَ بِهَا لَأَجَبْتُكَ (?) .
وَكَانَ الصديق قد أغلظ له في المقالة، فإن كَانَ هَذَا حَالُهُ مَعَ سَادَاتِ الْعَرَبِ وَرُؤَسَاءِ القبائل فكيف بمن عداهم، ولهذا قال تعالى: وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى وَلَسَوْفَ يَرْضى. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ دَعَتْهُ خَزَنَةُ الْجَنَّةِ يَا عَبْدَ اللَّهِ هَذَا خَيْرٌ» فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عَلَى مَنْ يُدْعَى مِنْهَا ضَرُورَةٌ فَهَلْ يُدْعَى مِنْهَا كُلِّهَا أَحَدٌ؟ قَالَ: «نَعَمْ وَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ» (?) .
آخِرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ اللَّيْلِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
تَفْسِيرُ
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ رَوَيْنَا مِنْ طَرِيقِ أَبِي الْحَسَنِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَزَّةَ الْمُقْرِئِ قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى عِكْرِمَةَ بْنِ سُلَيْمَانَ، وَأَخْبَرَنِي أَنَّهُ قَرَأَ عَلَى إِسْمَاعِيلَ بن قسطنطين وشبل بن عباد، فلما