حَتَّى رَفَعُوهُ فَوْقَ مَا أَعْطَاهُ اللَّهُ مِنَ النُّبُوَّةِ وَافْتَرَقُوا فِرَقًا وَشِيَعًا فَمِنْ قَائِلٍ مِنْهُمْ: إِنَّهُ ابْنُ اللَّهِ، وَقَائِلٍ إِنَّهُ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ: الْأَبِ وَالِابْنِ وَرُوحِ الْقُدُسِ، وَمِنْ قَائِلٍ إِنَّهُ اللَّهُ، وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ مُفَصَّلَةٌ فِي سُورَةِ النساء.
وقوله تعالى: فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ أَيْ نَصَرْنَاهُمْ عَلَى مَنْ عَادَاهُمْ مِنْ فِرَقِ النَّصَارَى فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ أَيْ عَلَيْهِمْ، وَذَلِكَ بِبَعْثَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ (?) رَحِمَهُ اللَّهُ: حَدَّثَنِي أَبُو السَّائِبِ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنِ الْمِنْهَالِ يَعْنِي ابْنَ عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: لَمَّا أَرَادَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَرْفَعَ عِيسَى إِلَى السَّمَاءِ خَرَجَ إِلَى أَصْحَابِهِ وَهُمْ فِي بَيْتٍ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا مِنْ عَيْنٍ فِي الْبَيْتِ وَرَأْسُهُ يَقْطُرُ مَاءً فَقَالَ: إِنَّ مِنْكُمْ مَنْ يَكْفُرُ بِي اثْنَتَيْ عَشْرَةَ مَرَّةً بَعْدَ أَنْ آمَنَ بِي، قَالَ: ثُمَّ قَالَ أَيُّكُمْ يُلْقَى عَلَيْهِ شَبَهِي فَيُقْتَلُ مَكَانِي وَيَكُونَ مَعِي فِي دَرَجَتِي؟ قَالَ: فَقَامَ شَابٌّ من أحدثهم سنا فقال: أنا. فَقَالَ لَهُ: اجْلِسْ. ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِمْ فَقَامَ الشَّابُّ فَقَالَ: أَنَا، فَقَالَ لَهُ: «اجْلِسْ» ثُمَّ أَعَادَ عَلَيْهِمْ فَقَامَ الشَّابُّ فَقَالَ أَنَا، فَقَالَ: نَعَمْ أَنْتَ ذَاكَ.
قَالَ: فَأُلْقِي عَلَيْهِ شَبَهُ عِيسَى وَرُفِعَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ رَوْزَنَةٍ فِي الْبَيْتِ إِلَى السَّمَاءِ قَالَ:
وَجَاءَ الطَّلَبُ من اليهود فأخذوا شبيهه فَقَتَلُوهُ وَصَلَبُوهُ وَكَفَرَ بِهِ بَعْضُهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ مَرَّةً بَعْدَ أن آمنوا بِهِ، فَتَفَرَّقُوا فِيهِ ثَلَاثَ فِرَقٍ، فَقَالَتْ فِرْقَةٌ كَانَ اللَّهُ فِينَا مَا شَاءَ ثُمَّ صَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ وَهَؤُلَاءِ الْيَعْقُوبِيَةُ، وَقَالَتْ فِرْقَةٌ كَانَ فينا ابن الله مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ رَفَعَهُ إِلَيْهِ وَهَؤُلَاءِ النُّسْطُورِيَّةُ، وَقَالَتْ فِرْقَةٌ كَانَ فِينَا عَبْدُ اللَّهِ ورسوله ما شاء الله ثُمَّ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَهَؤُلَاءِ الْمُسْلِمُونَ، فَتَظَاهَرَتِ الْكَافِرَتَانِ عَلَى الْمُسْلِمَةِ فَقَتَلُوهَا فَلَمْ يَزَلِ الْإِسْلَامُ طَامِسًا حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ يَعْنِي الطَّائِفَةَ الَّتِي كَفَرَتْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي زَمَنِ عِيسَى وَالطَّائِفَةَ الَّتِي آمَنَتْ فِي زَمَنِ عِيسَى فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ بِإِظْهَارِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دينهم على دين الكفار.
هَذَا لَفْظُهُ فِي كِتَابِهِ عِنْدَ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، وَهَكَذَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ عِنْدَ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ سُنَنِهِ عَنْ أَبِي كُرَيْبٍ مُحَمَّدِ بْنِ الْعَلَاءِ عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ بِمِثْلِهِ سَوَاءً.
فَأُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَزَالُونَ ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَذَلِكَ، وَحَتَّى يُقَاتِلَ آخِرُهُمُ الدَّجَّالَ مَعَ الْمَسِيحِ عِيسَى ابنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَمَا وَرَدَتْ بِذَلِكَ الْأَحَادِيثُ الصِّحَاحُ، وَاللَّهُ أعلم. آخر تفسير سورة الصف ولله الحمد والمنة.