نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ
أَيْ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ بِمَا جِئْتَهُمْ بِهِ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا الآية، أي وأرسلناك إليهم لتقيم عليهم الحجة، ولينقطع عُذْرَهُمْ إِذَا جَاءَهُمْ عَذَابٌ مِنَ اللَّهِ بِكُفْرِهِمْ، فَيَحْتَجُّوا بِأَنَّهُمْ لَمْ يَأْتِهِمْ رَسُولٌ وَلَا نَذِيرٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِهِ إِنْزَالَ كِتَابِهِ الْمُبَارَكِ وَهُوَ الْقُرْآنُ أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ [الْأَنْعَامِ: 156- 157] وقال تعالى: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النِّسَاءِ: 165] وَقَالَ تَعَالَى: يَا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ [المائدة: 19] الآية، والآيات في هذا كثيرة.
فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50) وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51)
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْقَوْمِ الَّذِينَ لَوْ عَذَّبَهُمْ قَبْلَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، لَاحْتَجُّوا بِأَنَّهُمْ لَمْ يَأْتِهِمْ رَسُولٌ أَنَّهُمْ لَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِهِ عَلَى لِسَانِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالُوا عَلَى وَجْهِ التَّعَنُّتِ وَالْعِنَادِ وَالْكُفْرِ وَالْجَهْلِ وَالْإِلْحَادِ لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسى الآية، يعنون- والله أعلم- من الآيات كثيرة مِثْلَ الْعَصَا وَالْيَدِ وَالطُّوفَانِ وَالْجَرَادِ وَالْقُمَّلِ وَالضَّفَادِعِ والدم وتنقيص الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ، مِمَّا يَضِيقُ عَلَى أَعْدَاءِ اللَّهِ، وَكَفَلْقِ الْبَحْرِ وَتَظْلِيلِ الْغَمَامِ وَإِنْزَالِ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الْبَاهِرَةِ، وَالْحُجَجِ القاهرة، التي أجراها الله تعالى على يدي موسى عليه السلام حجة وبرهانا لَهُ عَلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ وَبَنِي إِسْرَائِيلَ.
وَمَعَ هَذَا كُلِّهِ لَمْ يَنْجَعْ فِي فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ، بَلْ كَفَرُوا بِمُوسَى وَأَخِيهِ هَارُونَ، كَمَا قَالُوا لَهُمَا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ [يُونُسَ: 78] وَقَالَ تَعَالَى: فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ [الْمُؤْمِنُونَ: 48] وَلِهَذَا قَالَ هَاهُنَا:
أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ أَيْ أو لم يَكْفُرِ الْبَشَرُ بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ تِلْكَ الْآيَاتِ الْعَظِيمَةِ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا أَيْ تَعَاوَنَا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ أَيْ بِكُلٍّ مِنْهُمَا كافرون، ولشدة التلازم والتصاحب والمقاربة بَيْنَ مُوسَى وَهَارُونَ، دَلَّ ذِكْرُ أَحَدِهِمَا عَلَى الآخر، كما قال الشاعر [الوافر] :