وَيَتَضَرَّرُ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، وَلَكِنِ اقْتَضَتْ حِكْمَتُهُ وَقُدْرَتُهُ أَنْ يَخْلُقَهُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، ثُمَّ يُكْثِرَهُمْ غَايَةَ الْكَثْرَةِ، وَيَذْرَأَهُمْ فِي الْأَرْضِ، وَيَجْعَلَهُمْ قُرُونًا بَعْدَ قُرُونٍ، وَأُمَمًا بَعْدَ أُمَمٍ، حَتَّى يَنْقَضِيَ الْأَجَلُ وَتَفْرُغَ الْبَرِيَّةُ، كَمَا قَدَّرَ ذَلِكَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَكَمَا أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا، ثُمَّ يُقِيمُ الْقِيَامَةَ وَيُوَفِّي كُلَّ عَامِلٍ عَمَلَهُ إِذَا بَلَغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ أَيْ يَقْدِرُ عَلَى ذلك أو أإله مَعَ اللَّهِ يُعْبَدُ؟
وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ اللَّهَ هو المتفرد بفعل ذلك وحده لا شريك له؟ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ أَيْ مَا أَقَلَّ تَذَكُّرَهُمْ فِيمَا يُرْشِدُهُمْ إِلَى الْحَقِّ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى الصِّرَاطِ المستقيم.
أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63)
يَقُولُ تَعَالَى: أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ أَيْ بِمَا خَلَقَ مِنَ الدَّلَائِلِ السَّمَاوِيَّةِ وَالْأَرْضِيَّةِ كَمَا قال تعالى: وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ [النَّحْلِ: 16] وَقَالَ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ [الأنعام: 97] الآية وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَيْ بَيْنَ يَدَيِ السَّحَابِ الَّذِي فِيهِ مَطَرٌ يغيث الله بِهِ عِبَادَهُ الْمُجْدِبِينَ الْأَزِلِينَ الْقَنِطِينَ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ.
[سورة النمل (27) : آية 64]
أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (64)
أَيْ هُوَ الَّذِي بِقُدْرَتِهِ وَسُلْطَانِهِ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ [بروج: 12] وقال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الرُّومِ: 27] وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَيْ بِمَا يُنْزِلُ مِنْ مَطَرِ السَّمَاءِ وَيُنْبِتُ مِنْ بَرَكَاتِ الأرض كما قال تعالى: يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها [الْحَدِيدِ: 4] فَهُوَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يُنَزِّلُ مِنَ السماء ماء مباركا فيسلكه ينابيع فِي الْأَرْضِ، ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ مِنْهَا أَنْوَاعَ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ وَالْأَزَاهِيرِ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أَلْوَانٍ شَتَّى كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى [طه: 54] ولهذا قال تعالى: أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ أَيْ فَعَلَ هَذَا وَعَلَى القول الآخر بعد هذا قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ عَلَى صِحَّةِ مَا تَدَّعُونَهُ مِنْ عِبَادَةِ آلِهَةٍ أُخْرَى إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فِي ذَلِكَ وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا حُجَّةَ لهم ولا برهان كما قال تعالى:
وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لَا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ [المؤمنون: 117] .