إِلَى الْمَدِينَةِ، وَذَكَرُوا أَنَّ اسْمَهَا دِقْسُوسُ، وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ قَرِيبُ الْعَهْدِ بِهَا، وَكَانَ النَّاسُ قَدْ تَبَدَّلُوا قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ وَجِيلًا بَعْدَ جِيلٍ وَأُمَّةً بَعْدَ أُمَّةٍ، وَتَغَيَّرَتِ الْبِلَادُ وَمَنْ عليها، كما قال الشاعر:
[الطويل]
أَمَّا الدِّيَارُ فَإنَّها كَدِيَارِهِمْ ... وَأَرَى رِجَالَ الْحَيِّ غَيْرَ رِجَالِهِ
فَجَعَلَ لَا يَرَى شَيْئًا مِنْ مَعَالِمِ الْبَلَدِ الَّتِي يَعْرِفُهَا، وَلَا يَعْرِفُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِهَا: لَا خَوَاصِّهَا وَلَا عَوَامِّهَا، فَجَعَلَ يَتَحَيَّرُ فِي نَفْسِهِ وَيَقُولُ: لَعَلَّ بِي جُنُونًا أَوْ مَسًّا أَوْ أَنَا حَالِمٌ، وَيَقُولُ: وَاللَّهِ مَا بِي شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّ عَهْدِي بِهَذِهِ الْبَلْدَةِ عَشِيَّةَ أَمْسٍ عَلَى غَيْرِ هَذِهِ الصِّفَةِ. ثُمَّ قَالَ: إِنَّ تَعْجِيلَ الْخُرُوجِ مِنْ هَاهُنَا لَأَوْلَى لِي، ثُمَّ عَمَدَ إِلَى رَجُلٍ مِمَّنْ يَبِيعُ الطَّعَامَ، فَدَفَعَ إِلَيْهِ مَا مَعَهُ مِنَ النَّفَقَةِ، وَسَأَلَهُ أَنْ يَبِيعَهُ بِهَا طَعَامًا، فَلَمَّا رَآهَا ذَلِكَ الرَّجُلُ أَنْكَرَهَا وَأَنْكَرَ ضَرْبَهَا، فَدَفَعَهَا إِلَى جَارِهِ، وَجَعَلُوا يَتَدَاوَلُونَهَا بَيْنَهُمْ وَيَقُولُونَ: لعل هذا وَجَدَ كَنْزًا، فَسَأَلُوهُ عَنْ أَمْرِهِ وَمِنْ أَيْنَ لَهُ هَذِهِ النَّفَقَةُ، لَعَلَّهُ وَجَدَهَا مِنْ كَنْزٍ وممن أَنْتَ؟ فَجَعَلَ يَقُولُ: أَنَا مِنْ أَهْلِ هَذِهِ البلدة، وَعَهْدِي بِهَا عَشِيَّةَ أَمْسٍ وَفِيهَا دَقْيَانُوسُ، فَنَسَبُوهُ إِلَى الْجُنُونِ، فَحَمَلُوهُ إِلَى وَلِيِّ أَمْرِهِمْ فَسَأَلَهُ عن شأنه وخبره حَتَّى أَخْبَرَهُمْ بِأَمْرِهِ، وَهُوَ مُتَحَيِّرٌ فِي حَالِهِ وَمَا هُوَ فِيهِ، فَلَمَّا أَعْلَمَهُمْ بِذَلِكَ قَامُوا معه إلى الكهف- ملك الْبَلَدِ وَأَهْلُهَا- حَتَّى انْتَهَى بِهِمْ إِلَى الْكَهْفِ فقال لهم: دَعُونِي حَتَّى أَتَقَدَّمَكُمْ فِي الدُّخُولِ لِأُعْلِمَ أَصْحَابِي فدخل، فَيُقَالُ إِنَّهُمْ لَا يَدْرُونَ كَيْفَ ذَهَبَ فِيهِ، وأخفى الله عليهم خبرهم، وَيُقَالُ بَلْ دَخَلُوا عَلَيْهِمْ وَرَأَوْهُمْ، وَسَلَّمَ عَلَيْهِمُ الْمَلِكُ وَاعْتَنَقَهُمْ، وَكَانَ مُسْلِمًا فِيمَا قِيلَ، وَاسْمُهُ تِيدُوسِيسُ، فَفَرِحُوا بِهِ وَآنَسُوهُ بِالْكَلَامِ، ثُمَّ وَدَّعُوهُ وَسَلَّمُوا عَلَيْهِ، وَعَادُوا إِلَى مَضَاجِعِهِمْ، وَتَوَفَّاهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ قَتَادَةُ: غَزَا ابْنُ عَبَّاسٍ مَعَ حَبِيبِ بْنِ مَسْلَمَةَ، فَمَرُّوا بِكَهْفٍ فِي بِلَادِ الرُّومِ، فَرَأَوْا فِيهِ عِظَامًا فَقَالَ قَائِلٌ: هَذِهِ عِظَامُ أَهْلِ الْكَهْفِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَقَدْ بَلِيَتْ عِظَامُهُمْ مِنْ أَكْثَرِ مِنْ ثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ، رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ.
وَقَوْلُهُ: وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ أَيْ كَمَا أَرْقَدْنَاهُمْ وَأَيْقَظْنَاهُمْ بِهَيْئَاتِهِمْ، أَطْلَعْنَا عَلَيْهِمْ أَهْلَ ذَلِكَ الزَّمَانِ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ أَيْ فِي أَمْرِ الْقِيَامَةِ، فَمِنْ مُثْبِتٍ لَهَا وَمِنْ مُنْكِرٍ، فَجَعَلَ اللَّهُ ظُهُورَهُمْ عَلَى أَصْحَابِ الْكَهْفِ حُجَّةً لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ أَيْ سُدُّوا عَلَيْهِمْ بَابَ كَهْفِهِمْ، وَذَرُوهُمْ عَلَى حَالِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً حَكَى ابْنُ جَرِيرٍ فِي الْقَائِلِينَ ذَلِكَ قَوْلَيْنِ [أَحَدُهُمَا] إِنَّهُمُ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ. [وَالثَّانِي] أَهْلُ الشِّرْكِ مِنْهُمْ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الَّذِينَ قَالُوا ذَلِكَ هُمْ أَصْحَابُ الْكَلِمَةِ وَالنُّفُوذِ، وَلَكِنْ هَلْ هُمْ مَحْمُودُونَ أم لا؟