ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا أَيْ لَا تَعْتَاضُوا عَنِ الْإِيْمَانِ بِاللَّهِ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا، فَإِنَّهَا قَلِيلَةٌ، وَلَوْ حِيزَتْ لِابْنِ آدَمَ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا لَكَانَ مَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَهُ، أَيْ جَزَاءُ اللَّهِ وَثَوَابُهُ خَيْرٌ لِمَنْ رَجَاهُ وَآمَنَ بِهِ وَطَلَبَهُ وَحَفِظَ عَهْدَهُ رَجَاءَ مَوْعُودِهِ، وَلِهَذَا قَالَ:
إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ أَيْ يَفْرَغُ وَيَنْقَضِي فَإِنَّهُ إِلَى أَجَلٍ مَعْدُودٌ مَحْصُورٌ مُقَدَّرٌ مُتَنَاهٍ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ أَيْ وَثَوَابُهُ لَكُمْ فِي الْجَنَّةِ بَاقٍ لَا انْقِطَاعَ وَلَا نَفَادَ لَهُ، فَإِنَّهُ دَائِمٌ لَا يَحُولُ وَلَا يَزُولُ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ قَسَمٌ مِنَ الرَّبِّ تعالى مؤكد بِاللَّامِ، أَنَّهُ يُجَازِي الصَّابِرِينَ بِأَحْسَنِ أَعْمَالِهِمْ، أَيْ ويتجاوز عن سيئها.
مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (97)
هَذَا وَعْدٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِمَنْ عَمِلَ صَالِحًا وَهُوَ الْعَمَلُ المتابع لكتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى، مِنْ بَنِي آدَمَ وَقَلْبُهُ مُؤْمِنٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَإِنَّ هَذَا الْعَمَلَ الْمَأْمُورَ بِهِ مَشْرُوعٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِأَنْ يُحْيِيَهُ اللَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً فِي الدُّنْيَا، وَأَنْ يَجْزِيَهُ بِأَحْسَنِ مَا عَمِلَهُ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، وَالْحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ تَشْمَلُ وُجُوهَ الرَّاحَةِ مِنْ أَيِّ جِهَةٍ كَانَتْ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٍ أَنَّهُمْ فَسَّرُوهَا بِالرِّزْقِ الْحَلَالِ الطَّيِّبِ. وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ فَسَّرَهَا بِالْقَنَاعَةِ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةُ وَوَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ، وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عباس: أنها هي السَّعَادَةُ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: لَا يَطِيبُ لِأَحَدٍ حَيَاةٌ إِلَّا فِي الْجَنَّةِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ:
هِيَ الرِّزْقُ الْحَلَالُ وَالْعِبَادَةُ فِي الدُّنْيَا، وَقَالَ الضَّحَّاكُ أَيْضًا: هِيَ الْعَمَلُ بِالطَّاعَةِ وَالِانْشِرَاحُ بِهَا، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْحَيَاةَ الطَّيِّبَةَ تَشْمَلُ هَذَا كُلَّهُ.
كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «1» : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي أَيُّوبَ، حَدَّثَنِي شُرَحْبِيلُ بْنُ أبي شَرِيكٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ، وَرُزِقَ كَفَافًا، وَقَنَّعَهُ اللَّهُ بِمَا آتَاهُ» «2» ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يزيد المقري بِهِ.
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هَانِئٍ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الْجَنْبِيِّ، عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ هدي للإسلام، وَكَانَ عَيْشُهُ كَفَافًا وَقَنِعَ بِهِ» «3» .
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: هذا حديث صحيح.